لم يحسم العلماء بعد إجابة السؤال المعقد عن حركة التاريخ: هل يسير التاريخ في تطور متلاحق إلى الأمام ليفسح المجال للدول والشعوب كي تحدث تراكم إنجازاتها سواء كانت نجاحاً أم إخفاقاً بشكل يجعله يسير متعرجاً بين النجاح والإخفاق، لكنه في كل الأحوال يسير إلى الأمام، أم أن التاريخ يتحرك في دوائر ارتدادية قد تتسع وقد تضيق، ما يعني أن التجارب قد تعيد نفسها وإن كان بدرجات من التباين بين تجربة تاريخية وأخرى.

هذا السؤال عادة ما يفرض نفسه على الأمم في مراحل تحولها وتغيرها التاريخية بسبب ما تتعرض له من أحداث كبرى. واليوم نستطيع أن نقول إن دولة الإمارات تتفرد بتقديم إجابة حاسمة لهذا السؤال، إجابة تقول وتؤكد فيها أن الشعوب بقدراتها ومخزونها القيمي والتاريخي هي من تحرك التاريخ على النحو الذي تريده، وأن تاريخ الإمارات يتحرك حتماً إلى الأمام بفضل هذا المخزون وتلك الخبرات الهائلة التي اكتسبتها منذ تأسيسها قبل خمسين عاماً من الآن. مؤشرات ذلك كثيرة:

أولها، ذلك الانتقال السلس والشفاف والإجماعي للسلطة عقب وفاة المغفور له بإذن الله صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد حاكم أبوظبي رئيس دولة الإمارات. حدث ذلك على المستويين: مستوى إمارة أبوظبي بالإقرار الكامل من كافة المعنيين بالأمر باختيار الشيخ محمد بن زايد حاكماً للإمارة، ومستوى الدولة بإجماع أصحاب السمو حكام الإمارات أعضاء المجلس الأعلى على اختيار صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد رئيساً للدولة. ما توّج الصحافة الإماراتية والخليجية والعربية، بل والعالمية من هذه التقديرات تأكيدها أن اختيار الشيخ محمد بن زايد رئيساً لدولة الإمارات جاء بدافعين؛ أولهما الطمأنينة العالية أن البلاد سوف تكون في أمان ورغد عيش وحياة في ظل الرئاسة الجديدة، وثانيهما الثقة في أن المستقبل القادم سيكون مفعماً بإنجاز مشروع النهضة، وأن المرحلة الثالثة من عمر دولة الإمارات التي بدأت مع تولي الشيخ محمد بن زايد مسؤولياته الدستورية كرئيس للدولة ستكون حتماً مرحلة صنع المستقبل.

ثانيها، ذلك التداخل والترابط الشديد بين المراحل الثلاث لتطور الدولة، وأن الشيخ محمد بن زايد كان محور الارتباط في هذه المراحل: مرحلة التأسيس تحت قيادة الأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيّب الله ثراه. في هذه المرحلة كان الشيخ خليفة بن زايد شريكاً في صنع هذا التأسيس بجوار والده، وكان موجوداً في كل تفاصيل هذه المرحلة التأسيسية، وعلى الأخص جيش دولة الإمارات ومجمل المؤسسات الكبرى في الدولة، ثم مرحلة «التمكين» للدولة داخلياً وخليجياً وعربياً وإقليمياً ودولياً بقيادة المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ خليفة بن زايد، وبمشاركة قوية وفعالة ومؤثرة من شقيقه الشيخ محمد بن زايد بصفته ولياً للعهد. وها هي المرحلة الثالثة من عمر الدولة الجديد التي تحكمها طموحات صنع النهضة والمستقبل بتولي الشيخ محمد بن زايد كامل مسؤولية قيادة هذه المرحلة.

هذا الترابط والتداخل بين المراحل الثلاث على مستوى المسؤوليات والمهام من التأسيس إلى التمكين إلى صنع المستقبل والنهضة، تؤكد أن تاريخ الإمارات يتجه في شكل خط بياني صاعد نحو المستقبل الأفضل وتراكم الإنجازات.

ثالث هذه المؤشرات، حجم تطلعات المستقبل مع قيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد الذي يعرَّف منذ سنوات بأنه «صانع السياسات الحديثة في البلاد». هذه التطلعات عرّفها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد حاكم دبي رئيس مجلس الوزراء نائب رئيس الدولة شريك صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد في مسؤولية الانتقال من «مرحلة التمكين» إلى «مرحلة صنع المستقبل والنهضة» بقوله إن «الإمارات تسابق الزمن وتسعى دائماً إلى منافسة الأوائل». منافسة الأوائل تعني مسابقة الزمن مع هؤلاء الأوائل والتحسب لتحديات ما بعد مرحلة نضوب النفط على النحو الذي أوضحه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد الذي ساهم في «مرحلة التمكين» بوضع الخطط الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والتعليمية في البلاد بقوله في القمة العالمية للحكومات عام 2015: «رهاننا الحقيقي، في الفترة القادمة هو الاستثمار في التعليم»، وقوله: «نحن نعيش فترة لدينا فيها خير، ويجب أن نستثمر كل إمكانياتنا في التعليم لأنه سيأتي وقت بعد خمسين عاماً، ونحن نحمل آخر برميل نفط للتصدير، وسيأتي السؤال: هل سنحزن وقتها؟» ويجيب «إذا كان الاستثمار اليوم في مواردنا البشرية صحيحاً فأنا أراهن أننا سنحتفل بتلك اللحظة».

رهان الشيخ محمد هو صنع مرحلة ما بعد النفط سواء على مستوى البناء الداخلي في دولة الإمارات سياسياً واقتصادياً واجتماعياً أو على المستوى العربي والمستوى الإقليمي والعالمي. وإذا كانت الإمارات قد دخلت السباق العالمي على صنع المستقبل وانخرطت في مشروعات مستقبلية مثل مشروع تكنولوجيا الفضاء، والتأسيس لبنية اقتصادية تكنولوجية حديثة وتنويع مصادر الداخل، فإنها تدرك أنها معنية بصنع مستقبل الدولة في مرحلة ما بعد النفط، بأن تكون لها كلمة في هندسة النظام الإقليمي في ظل صراع الهويات المشتعل، وتحديد مكانته الدولية في ظل تحولات تحدث في النظام العالمي من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب، بكل ما يعنيه ذلك من مراجعات مهمة لعلاقات الإمارات بالقوى الدولية الفاعلة. الانخراط في هذه المهام الكبرى يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن التاريخ يعمل لصالح دولة الإمارات وأنه يسير بها نحو مستقبل واعد تأمله تحت قيادتها الجديدة.