أظهرت جائحة كورونا ثم الحرب الروسية الأوكرانية تغيراً لمفهوم الأمن الغذائي. ففي السابق كان يكفي أن يكون للبلد نسبة بسيطة من الاكتفاء الذاتي (الربع أو الثلث مثلاً) من المنتجات الغذائية الرئيسية وقوة شرائية يكمل بها باقي احتياجاته من الدول المصدرة لأنها هي نفسها بحاجة لبيع منتجاتها حتى لو تعرض البلد المستورد للحصار. لكن بعد كورونا أظهرت البلدان المصدرة للمنتجات الغذائية نيتها لإيقاف التصدير تحسباً للمفاجآت، والشيء نفسه يحصل الآن مع الحرب الروسية الأوكرانية.

ليس الأمن الغذائي فقط بل أيضاً ثمة إعادة لتعريف الأمن القومي نتيجة بعض المستجدات الأخيرة كالتغير المناخي والهجمات السيبرانية، إن «تحدي الأمن الغذائي أعاد تعريف الأمن القومي مجددا لتكون القدرة على توفير الغذاء الآمن المستدام جوهر ذلك الأمن وركيزته التي تتجاوز تهديداته حدود الدول لتطال أقاليم بأسرها» وفقاً لقول د. أشرف كشك (مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة).

قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، كانت أسعار الغذاء العالمية قد بلغت أعلى مستوياتها بسبب ارتفاع تكاليف مدخلات الإنتاج خاصة الأسمدة جراء زيادة أسعار الطاقة، وكذلك بسبب التغير المناخي (ارتفاع الحرارة وانخفاض معدل الأمطار) التي أثرت على الإنتاج الزراعي في العديد من المناطق، إضافة إلى اضطرابات التجارة الدولية وسلاسل الإمداد بسبب جائحة كورونا، ثم أتت الحرب الروسية الأوكرانية لتفاقم «أزمة ثلاثية الأبعاد: أزمة غذاء وأزمة طاقة وأزمة اقتصاد.. مما سيكون له آثار مدمرة على الناس والبلدان والاقتصادات الأكثر هشاشة في العالم» وفقاً لانطونيو غوتيريش أمين عام الأمم المتحدة.

هذه الأزمة الثلاثية أطلق عليها العاصفة المتكاملة (the perfect storm) كما وصفها ديفيد بيزلي، المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي قائلاً بأن «الأوضاع الآن أسوأ بكثير مما كانت عليه خلال الربيع العربي في 2011، وأزمة أسعار الغذاء في 2007 - 2008 عندما هزّت الاضطرابات السياسية وأعمال الشغب والاحتجاجات 48 دولة، وقد رأينا ما يحدث بالفعل في إندونيسيا وباكستان وبيرو وسريلانكا... هذا مجرد غيض من فيض.. لدينا حلول، لكن علينا أن نتحرك، وأن نتحرك بسرعة».

المنطقة العربية من المناطق الأكثر تأثرا في العالم من تبعات الحرب، خاصة البلدان ذات الاقتصاديات الهشة، فالبلدان العربية تستورد: 42 في المئة من احتياجاتها من القمح و23 في المئة من احتياجاتها من الزيوت النباتية من كل من أوكرانيا وروسيا، وفقاً لبرنامج الغذاء العالمي. تقول الدكتورة عبير عطيفة المتحدثة الإعلامية باسم برنامج الغذاء العالمي بالشرق الأوسط إن الحرب على أوكرانيا «أظهرت هشاشة وضع الأمن الغذائي في المنطقة العربية وإفريقيا ودول كثيرة في آسيا، وأوضحت ضرورة التفكير في إعادة الأولويات والاستثمار في مجال الزراعة، وتحقيق على الأقل نسبة كبيرة من الاكتفاء الذاتي، وإن لم يكن اكتفاء كاملاً، بحيث تتفادى الشعوب العوامل الخارجة عن السيطرة».

تأثر البلدان العربية كان بدرجات متفاوتة. دول مجلس التعاون الخليجي تتمتع بوضع مستقر في الأمن الغذائي بسبب قوتها الشرائية وتنويع مصادر الاستيراد، ومشاريع الإنتاج بالتقنيات المتقدمة في الزراعة للمناطق الجافة، والاستثمار الزراعي في الخارج. البلدان العربية التي تعتمد على الأمطار في زراعة الحبوب تأثرت بشكل مزدوج بسبب تداعيات التغير المناخي من ارتفاع الحرارة وندرة الأمطار مما أدى إلى انخفاض عائدات بعض المحاصيل الرئيسية وتفشي الآفات الزراعية.

تقول مونيكا توتوفا الخبيرة الاقتصادية بمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة «الفاو» إن الحصول على المستلزمات الزراعية (كالأسمدة والمعدات على سبيل المثال) لا يزال يمثل مشكلة في المناطق المتأثرة بالنزاعات أو الأزمات الاقتصادية أو الاثنين معا.. وتضيف أن لبنان على وجه الخصوص «يواجه مشكلة كبيرة بسبب الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها منذ وقت طويل، فضلا عن نقص منشآت التخزين في مرفئه الرئيسي عقب التفجير الذي تعرض له عام 2020، ما أثر على قدرة البلاد على الاستيراد».

في أبريل الماضي أصدرت المنظمة العربية للتنمية الزراعية إعلان نواكشط للأمن الغذائي العربي المستدام لإطلاق «إستراتيجية التنمية الزراعية العربية المستدامة 2030، والبرنامج العربي لاستدامة الأمن الغذائي.. بهدف زيادة مستويات الإنتاجية والإنتاج الزراعي من السلع الغذائية الأساسية بنسبة لا تقل عن 30 في المئة خلال السنوات العشر القادمة».

المنظمة العربية للتنمية الزراعية ومنظمة الفاو وغيرهما تطرح العديد من المقترحات، بداية بحلول عاجلة بأن تقوم البلدان العربية بمساعدة المواطنين الأكثر تضرراً بارتفاع الأسعار من خلال تقديم معونات مالية في هيئة أموال أو قسائم طعام. أما على المدى الأبعد فمن الضرورة تبني وسائل لإنتاج المحاصيل الغذائية الرئيسية بصورة أكثر استدامة مع الأخذ في الاعتبار التقلبات الجوية، واستخدام تقنيات زراعية متقدمة لتحسين الإنتاج، ومحاصيل تتكيف مع الجفاف ووسائل ري مرشدة وموفرة للمياه.. إضافة إلى تقليص الفاقد والهدر من المنتجات الزراعية عبر تحسين وسائل النقل والتخزين والتصنيع والتعليب..الخ. أما بالنسبة للاستيراد فقد اتضح ضرورة تنويع الدول التي يتم استيراد المواد الغذائية الرئيسية منها بدلاً من الاعتماد على عدد محدود من البلدان المنتجة، جنباً إلى جنب بإيلاء البعد الجغرافي أهمية عبر زيادة تبادل المنتجات الغذائية وإنشاء شبكة أمن غذائي إقليمي للمناطق المتجاورة.