"الوضع الاقتصادي خطير للغاية، والأشهر المقبلة ستكون صعبة"
ريشي سوناك، وزير المالية البريطاني
حسنا، كل اقتصادات الدول المتقدمة، وعدد من الدول الناشئة يواجه مشكلات اقتصادية، آتية من الأزمة الاقتصادية التي تسود الساحة الدولية حاليا. التضخم وصل إلى معدلات تاريخية من حيث الارتفاع، والنمو يتراجع، إلى درجة دخل في بعض الدول نطاق الانكماش، بعد أشهر قليلة من خروجه من انكماش تسيد المشهد طوال عام 2020، الذي أصبح معروفا بعام الجائحة، أو سنة كورونا. ومع ذلك، يبقى الوضع في بريطانيا الأكثر خطورة من الناحية الاقتصادية، مقارنة ببقية دول "مجموعة العشرين" ودول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي التي تضم 38 دولة. فعلى سبيل المثال، ترتفع الأسعار في المملكة المتحدة بأسرع وتيرة لها منذ 40 عاما، حيث بلغت أعلى مستوى ضمن "مجموعة العشرين"، وفشلت الإجراءات التي اتخذت حتى الآن في كبح جماح الموجة التضخمية، بما فيها رفع الفائدة من قبل بنك إنجلترا المركزي.
ليس هناك أي فاعلية لتدخلات الحكومة في وقف التدهور الاقتصادي. فالعوامل السلبية المحيطة بالمشهد العام ليست كثيرة فحسب، بل متفاقمة أيضا، ما يجعل حراك المقاومة الحكومية ضعيفا، وفي بعض الأحيان دون جدوى. الخوف الذي يسود بريطانيا حاليا آت من إمكانية دخولها في ركود تضخمي "ركود اقتصادي مع تضخم" على غرار ما حصل في سبعينيات القرن الماضي. وهذه شهدت اضطرابات اقتصادية حادة على ساحة المملكة المتحدة، جراء أزمة اقتصادية شبه عالمية آنذاك، مع فوضى سياسية سادت المشهد، ناتجة عن الصراع التقليدي غير المنظم، بين الأحزاب الرئيسة في البلاد. الحديث عن وقوع بريطانيا في أزمة مشابهة قبل نهاية العام الحالي، بدأ بالتزايد، إلى درجة أن أعلن بوريس جونسون رئيس الوزراء أن على "العمال القبول بتخفيضات في الأجور، إذا أردنا تجنب الركود التضخمي، على غرار ما حصل في السبعينيات".
استطاعت المملكة المتحدة بعد انتهاء ركود السبعينيات أن تسجل مستويات مرتفعة جدا من النمو، حيث دام ذلك لأكثر من 15 عاما، وحصلت على درجة واحدة أعلى في قائمة أكبر الاقتصادات على مستوى العالم، لتحتل موقع فرنسا فيها. لكن الأمر ليس سهلا هذه المرة، لارتباطه بمجموعة من العوامل الجديدة، من بينها تبعات خروج البلاد من عضوية الاتحاد الأوروبي "بريكست"، حيث أشارت دراسة أوروبية حديثة إلى أن الاقتصاد البريطاني خسر نحو 38 مليار دولار منذ مغادرة هذه الكتلة. كما أن مشكلة الأجور التي تحدث عنها جونسون، ليست محورية، في ظل ارتفاع الطلب على التوظيف في كل القطاعات في البلاد. فوفق اتحاد المصانع البريطانية مثلا هناك نقص مخيف في العمالة بسبب "بريكست"، ما يضيف أداة أخرى تضغط على النمو المأمول في الفترة المقبلة.
ومن غرابة المشهد، أن البطالة في بريطانيا تسجل أدنى مستوى لها، ليس من فرط النمو، بل من نقص اليد العاملة، التي كانت متوافرة بسهولة وبصورة قانونية قبل "بريكست". وهذا النقص سيؤدي إلى مزيد من الضربات على النشاط الاقتصادي المطلوب في هذه المرحلة بالذات. ومن المفارقات أيضا أن حزب المحافظين الحاكم، المعروف بمبادئه القائمة على خفض الضرائب، سيقوم الآن بزيادتها بفعل ضغوط الأزمة الاقتصادية. فقد عاندت الحكومة طلبات حزب العمال المعارض مثلا لفرض ضرائب استثنائية على شركات النفط البريطانية الكبرى التي تحقق أرباحا هائلة حتى في ظل الأزمة، إلا أنه في النهاية رضخت لهذه المطالب. فلم تجد الحكومة مخرجا آخر لإضافة مزيد من التمويل لخططها الآنية سوى ذلك، وقبلت بضرب مبادئها.
في بريطانيا الأسعار ترتفع، والأسر تستنزف مدخراتها، وإذا ما استمرت أسعار الطاقة في هذه الزيادة المتواصلة نتيجة الحرب الدائرة في أوكرانيا، وتراكمات حزم الإنقاذ التي أطلقت لمواجهة تداعيات كورونا، وتزايد وتيرة المعونات الحكومية للأسر المحتاجة أو تلك الغارقة بالفعل، فإن التضخم سيصل إلى مستويات فلكية. كل التوقعات تشير إلى بلوغه 10 في المائة قبل نهاية العام الجاري، مع إمكانية مواصلة الارتفاع في العام المقبل، الأمر الذي يسرع مسار الركود التضخمي إلى الساحة المحلية، مع عدم وجود حلول واقعية سريعة لاحتواء التداعيات الراهنة. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الحكومة البريطانية لم تعد متماسكة سياسيا، إثر سلسلة من الفضائح المختلفة، التي قلصت من أعداد مؤيدي بوريس جونسون حتى ضمن نطاق نوابه في مجلس العموم.
يمر الاقتصاد البريطاني بمرحلة أكثر من حرجة، تفوق فداحتها كل الاقتصادات المتقدمة الأخرى. فوفق منظمة التنمية والتعاون، فهذا الاقتصاد هو الأسوأ أداء حاليا، حتى لاحقا بين اقتصادات دول "مجوعة العشرين" بعد الاقتصاد الروسي مباشرة. وضعية اقتصاد المملكة المتحدة تعد من وجهة نظر شريحة كبيرة من الاقتصاديين فريدة من نوعها ضمن اقتصادات الدول المتقدمة. لماذا؟ لأن العوامل السلبية تضافرت بقوة مع بعضها بعضا، مثل ارتفاع معدلات التضخم، والزيادات المتلاحقة لأسعار الفائدة، ورفع الضرائب، والآثار التي تركها خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، دون أن ننسى المشكلة التي لا نهاية لها بسبب "بريكست"، وهي تلك المتعلقة بمصير أيرلندا الشمالية.