أكثر من طبيعي أن يلد “الفراغ القويّ” من رحم “العهد القوي”. لا مكان في لبنان سوى للفراغ حيثما يحلّ ميشال عون. تبقى تجربته في قصر بعبدا بين 1988 و1990 خير دليل على ذلك. فضّل وقتذاك الفراغ على تسليم الرئاسة إلى الرئيس المنتخب رينيه معوّض. فضّل الفراغ، على كلّ ما عداه، كي يستسلم أمام حافظ الأسد وكي يدخل الجيش السوري إلى قصر بعبدا وإلى وزارة الدفاع اللبنانيّة في 13 تشرين الأوّل – أكتوبر 1990 على دماء جنود وضباط من الجيش اللبناني…

ليس في الإمكان توقع ما هو مختلف عن الفراغ من عهد فيه ثنائي رئاسي مؤلّف من ميشال عون وجبران باسيل فيما ليست المرجعية الحقيقية لهذا الثنائي سوى “حزب الله”. ما لا يُفترض أن يغيب عن بال أي لبناني أنّه ما كان لميشال عون الوصول إلى قصر بعبدا في يوم من الأيّام لولا إغلاق “حزب الله” لمجلس النواب سنتين وخمسة أشهر من أجل فرضه رئيسا للجمهوريّة.

أراد الحزب أن يكون نجيب ميقاتي رئيسا مكلفا بتشكيل حكومة. ليس لديه مشكلة في أن يأتي ميقاتي بأكثرية مرتاحة أو بأكثرية هزيلة كما حصل بالفعل (54 صوتا من أصل 128 هم أعضاء مجلس النوّاب). همّه إثبات أنّه من يقرّر من هو رئيس الوزراء السنّي وما إذا كان في استطاعته تشكيل حكومة. همّه أيضا إفهام كلّ من يعنيه الأمر أن كتلة النواب الأرمن من حزب “الطاشناق” (ثلاثة نواب) عنده وليس في أيّ مكان آخر. لا عند جبران باسيل، الذي يمكن إعارته النواب الثلاثة عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، ولا عند غيره.

المهمّ في نهاية المطاف أن المرحلة المقبلة في لبنان ستشهد فراغا، خصوصا أن نجيب ميقاتي رفض مطالب عدّة قدمها له جبران باسيل. “لم يستجب لأيّ مطلب” لصهر رئيس الجمهوريّة، على حد تعبير أوساط قريبة من رئيس الوزراء المكلّف الذي صار على رأس حكومة مستقيلة. ليس لدى جبران باسيل ما يردّ به على الهزيمة التي تعرّض لها سوى وضع العقبات أمام تشكيل حكومة جديدة. يبدو، أقلّه ظاهرا، أن لا اعتراض لدى نجيب ميقاتي على بقاء الحكومة الحاليّة، كذلك الأمر بالنسبة إلى “حزب الله”.

في اليوم الأخير من تشرين الأوّل – أكتوبر المقبل، أي بعد أربعة أشهر، سيكون موقع رئاسة الجمهوريّة شاغرا. ما لا بدّ أن يكون موضع تساؤل، منذ الآن، هل ينتخب رئيس للجمهوريّة ضمن المهل المعقولة، وهي محددة بموجب الدستور؟ ليس ما يشير إلى ذلك، خصوصا أن الدستور يشجع على انتخاب رئيس للجمهورية في مرحلة الشهرين اللذين يسبقان انتهاء ولاية الرئيس. من الواضح أن ميشال عون لن يفعل ذلك. لا يعود ذلك إلى أنّه لم يحترم الدستور يوما فحسب، بل لأنّ همّه الوحيد إيصال صهره إلى قصر بعبدا أيضا. سيستغل “حزب الله” نقطة الضعف هذه عند رئيس الجمهوريّة كي يعمل من أجل انعقاد نوع من المؤتمر التأسيسي الذي يعيد النظر في الدستور اللبناني وفي اتفاق الطائف الذي هو في أساس الدستور الحالي.

هذا ما لمح إليه نجيب ميقاتي نفسه عندما قال حديثا في مؤتمر انعقد في عمّان: “لقد بات لبنان أمام مفترق طرق ومن المستحيل أن نستمر على النهج ذاته الذي كان سائدا. من هنا يجب الانطلاق من اتفاق الطائف وتدعيمه والبناء عليه وتطوير ما يحتاج إلى تطوير”. وشدّد على “أهمية اللامركزية الواردة ضمن الاتفاق باعتبارها خيارا مناسبا في المرحلة المقبلة للتعامل مع الأوضاع السياسية والإدارية بما يحفظ وحدة الدولة اللبنانية ضمن تنظيم للمقيمين فيها”. من الصعب التكهن بما عناه رئيس الوزراء اللبناني المكلّف بكلامه هذا وماذا يعني بـ”تطوير اتفاق الطائف”.

ليس لدى جبران باسيل ما يردّ به على الصفعة التي وجّهها له ميقاتي سوى منعه رئيس الجمهوريّة من التوقيع على تشكيل حكومة جديدة. لذلك يبدو “حزب الله” المستفيد الأوّل من الفراغ الذي يبدو البلد مقبلا عليه. يمكن تفسير ذلك بأنّ الحزب، الذي يمتلك تمويلا خاصا به، مستقلا إلى حدّ ما عن الدولة اللبنانيّة التي يستفيد منها في بعض الأمور، لا يهمه استمرار الانهيار اللبناني أو وقفه.

يلتقي الحزب عند هذه النقطة مع ميشال عون وجبران باسيل. لا يهم الثنائي الرئاسي بقاء شيء من لبنان أم لا. المهمّ بالنسبة إليهما أن يصبح جبران باسيل رئيسا للجمهوريّة خلفا لميشال عون. لا تسمح بمثل هذا التطور تركيبة المجلس النيابي الحالي الذي يتبيّن كلّ يوم أن الطرف الوحيد الذي يستطيع تشكيل أكثريّة فيه هو “حزب الله”. وهذا ما ظهر واضحا لدى انتخاب نبيه بري رئيسا لمجلس النواب للمرّة السابعة ولدى انتخاب محسوب على جبران باسيل، يدعى إلياس أبوصعب نائبا لرئيس المجلس… ولدى انتخاب أعضاء أمانة سر المجلس وأعضاء اللجان النيابيّة ورؤساء هذه اللجان.

سيلعب نجيب ميقاتي، من دون شك، دورا محوريا في المرحلة التي سيمرّ فيها لبنان، خصوصا بعد انتهاء ولاية ميشال عون من جهة وفي غياب قدرة جبران باسيل على فرض شروطه عليه من جهة أخرى. ليس ما يشير إلى أن لديه مانعا في إعادة تعويم الحكومة الحاليّة. سيكون قادرا على إدارة مرحلة الفراغ بكفاءة ليس بعدها كفاءة في بلد يريد جبران باسيل فرض نفسه رئيسا للجمهوريّة متجاهلا أنّه تحت عقوبات أميركيّة. الكلام هنا عن عقوبات، بموجب قانون ماغنيتسكي المتعلق بالفساد، لا يتجرّأ باسيل على تحديها أمام القضاء الأميركي.

في مرحلة الفراغ، التي يظهر أن لبنان مقبل عليها، قد يكون مفيدا التساؤل ما الذي يريده “حزب الله” بالضبط؟ الجواب، إنّه يريد تغيير النظام وتعديل الطائف. هل تسمح له الظروف الإقليميّة بذلك أم لا؟ ستسمح الظروف الإقليميّة لنجيب ميقاتي بإدارة الفراغ. هل يشمل ذلك تمكين “حزب الله”، أي إيران، من التحكم بـ”الفراغ القويّ” الذي سيخلفه “العهد القويّ” الذي استطاع لعب الدور المطلوب منه في القضاء على لبنان وعلى مسيحييه، على وجه التحديد؟