الموت حق، لكن شتان ما بين من يموت مرفوع الرأس وقد حفر اسمه في تاريخ بلده، وبين من يموت خائنًا تطارده اللعنات إلى يوم الدين. وسعيد الحمد الذي وافته المنية على أرض وطنه البحريني يوم الثلاثاء الموافق للحادي والعشرين من يونيو 2022 كان من النوع الأول بامتياز. فقد وهب صوته وقلمه وجهده وعصارة فكره لبلده، مدافعًا عن عروبته وسيادته وترابه وشرعية نظامه الخليفي بكل ما أوتي من مواهب إعلامية تشربها منذ سنوات صباه في دهاليز الإذاعة والتلفزيون، وبكل ما راكمه من خبرات وتجارب وقراءات في بلاط صاحبة الجلالة منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، فلا عجب لو تبارت الأقلام في رثاه والإشادة بمناقبه الكثيرة بمجرد سماعها خبر رحيله المفاجئ على إثر أزمة قلبية، ولا عجب أن يـُوصف بـ«فارس الإعلام والصحافة»، و«فقيد الكلمة الحرة»، و«عمود الصحافة البحرينية»، وغيرها من الأوصاف والألقاب التي يستحقها.

عرفتُ سعيد الحمد لأول مرة صوتًا هادرًا عبر أثير إذاعة البحرين اللاسلكية في الستينات الميلادية، يوم كان الراديو صاحب سطوة على العقول والأفئدة الباحثة عن التثقيف والتسلية والترفيه، وكانت إذاعة البحرين ببرامجها المتنوعة وبثها الواضح مقصدنا وخيارنا الأول. ثم عرفتُ الفقيد لاحقًا عن كثب في عقد التسعينات يوم أن جمعتنا جريدة الأيام على صفحاتها كزملاء عمل وفكر وتحليل ونقاش، فوجدتُ فيه الشخصية المستنيرة الظريفة المحبة للحياة، والانسان الصادق البشوش، والكاتب المثقف المتبحر. وقتها كان الحمد آتيًا من الإذاعة والتلفزيون، بينما كنت آتيًا من الحقل الأكاديمي. وسرعان ما فعلت الكيمياء الشخصية عملها فانجذب كل منا للآخر، خصوصًا وأن كلينا كان نتاج حقبة زمنية واحدة ومتأثرة بأفكار وظروف متشابهة وموجوعة بانكسارات وهزائم مماثلة. وسرعان ما اكتشفت أيضًا أن لكلينا نفس الميول والاهتمامات الفنية والغنائية والسينمائية، وذات الولع بالقديم والموروث من «الزمن الجميل».

لو كانت للجدران قدرة على النطق والإفصاح لروت مجلدات عن القصص والطرائف والقفشات والمواقف والنقاشات الطويلة التي كان مسرحها مكتب الفقيد بمبنى جريدة الأيام القديم في منطقة «الجفير»، وكان أبطالها ــ إضافة لكلينا ــ كتابًا وشخصيات ورموزًا فكرية بحرينية من مختلف المشارب والمدارس من أولئك الذين انحاز جلهم إلى جانب الوطن في محنته عام 2011م، فيما آثرت البقية أن تضع نفسها أدوات في خدمة أعداء الوطن وقوى الخارج المتآمرة، فتشتت شملها وأضحت كالأيتام في المنافي. وبسبب صلتي الوثيقة هذه بالفقيد كان لخبر رحيله وقعًا صادمًا وصاعقًا عليّ، خصوصًا وأن ظروف الوباء الصيني اللعين، فرقت شملنا ومنعت تواصلنا المباشر خلال السنوات الثلاث الماضية، فرحل إلى جوار ربه دون أن أراه.

ولد سعيد بن عبدالله بن يوسف بن حمد بن ابراهيم الفوزان الشهير بـ «سعيد الحمد» في حالة بني ماهر بمدينة المحرق عام 1948 إبنا لوالده عبدالله يوسف الحمد الفوزان، وحفيدًا ليوسف الحمد إبراهيم الفوزان الذي كان قد هاجر من الكويت إلى البحرين للعمل والإقامة في الأخيرة. هذا علمًا بأن أسرة الفوزان تنحدر أصلاً من بلدة جلاجل في وسط نجد، وتنتمي إلى البدارين من الدواسر، وكان بعض أفرادها قد نزح من لاجل واستوطن الكويت زمن الفاقة والمجاعات والأوبئة، بينما اتجه آخرون لذات السبب نحو القصيم والزبير والهند.

درس الحمد في مدارس مدينة المحرق النظامية كغيره من أبناء جيله وتشرب علومه الأولية في مدرسة الهداية الخليفية على أيدي مدرسي الجيل الذهبي، ووسط بيئة تربوية كانت تولي آنذاك عناية خاصة بالأنشطة اللاصفية من خلال فرق وجمعيات المسرح والتمثيل والإذاعة والخط والنشيد والإلقاء والصحافة الحائطية وغيرها. ولما كان الحمد صاحب مواهب كامنة في معظم هذه المجالات، فقد عملتْ هذه الأنشطة المدرسية، التي انغمس فيها بولع وشغف، على تفجير مواهبه وطاقاته وتعزيزها وصقلها. فلا غرو لو علمنا أنه التحق بإذاعة البحرين (افتتحت رسميًا في يوليو 1955) وهو في سن الصبا والمراهقة ضمن الأطفال الذين كانوا يتنافسون على إعداد وتقديم برنامج «ركن الأشبال». وسرعان ما تمكن الحمد، بفضل صوته المتميز وأسلوب إلقائه الفريد، وآرائه الفنية الصائبة، من احتلال موقع وسط كبار رموز إذاعة البحرين في ستينات القرن الماضي من أمثال ابراهيم كانو، وعتيق سعيد، وعبدالرحمن عبدالله، وحسن كمال، وعبدالواحد درويش، وأحمد كمال، وأحمد سليمان، وسامي القوز. علاوة على مزاملته لثلة من الإذاعيات البحرينيات الرائدات من أمثال: أمينة حسن وعائشة عبداللطيف، وبروين زينل، وبهية الجشي، وبدرية عبداللطيف، ولطيفة الحمد، وفاطمة شويطر، وعائشة أحمد، وأمينة عبدالرحمن الشملان التي جمعه بها العمل خلف الميكروفون كثنائي إذاعي ناجح قبل أن يجمعها عش الزوجية، وينجبا البنين والبنات.

ومن الإذاعة، التي سكن في دهاليزها على مدى ثلاثة عقود متصلة مذيعًا ومقدمًا ومعدًا ومعلقًا، امتد نشاط الحمد نحو التلفزيون، بـُعيد انطلاق بثه الحكومي الرسمي عام 1975، فعرفه الجمهور صوتًا وصورة، من خلال إطلالته على الشاشة كمعد ومقدم للعديد من برامج التلفزيون المتنوعة، الفكرية والثقافية والسياسية والفنية والحوارية والتراثية. إلى ذلك تولى الحمد إبان عمله في التلفزيون عملية النقل والتعليق على مناسبات كثيرة ــ مثل مهرجات الأدب والشعر، وندوات ومؤتمرات الإعلام الخليجية، ومواسم الحج السنوية المنقولة من المشاعر المقدسة. وقد كان من ثمار أنشطته التلفزيونية هذه، أن فاز بميدالية ذهبية وفاز برنامجه التراثي «صيف لوّل» بالجائزة الذهبية في مسابقة السهرة الخليجية المشتركة بدولة الكويت. كما فاز الحمد في عام 1990 بجائزة أفضل مذيع في الاستفتاء الذي أجرته مجلة «هنا البحرين»، وتمّ تكريمه في عام 2000 ضمن رواد ومبدعي مدينة المحرق.

وإذا ما أتينا إلى نشاط الحمد في بلاط صاحبة الجلالة لوجدنا أيضًا صورًا من الإتقان والدأب والنقاء والتعامل الراقي مع الكلمة وحملة الأقلام. فقد أشرف لسنوات طويلة على صفحة «قضايا» بجريدة الأيام، وهي الصفحة التي كان يحرص أن يكتب لها بنفسه زاوية يومية تحت عنوان «أبعاد»، يفرغ فيها آراءه ومواقفه السياسية والفكرية حيال قضايا الساعة الخليجية والعربية والعالمية بأسلوب السهل الممتنع مع اختيار مفردات من قاموسه اللغوي الخاص المشبع بروح اللهجة المحلية الدارجة. أما في أيام الجمع، فقد كان الفقيد يحرص على الابتعاد عن السياسة وشجونها، وتخصيص زاويته لسرد حكايات ومواقف وطرائف من الزمن البحريني الجميل، تخفيفًا على القراء يوم إجازتهم الأسبوعية.

ومن دلائل حرصه على أن تخرج الصفحة التي أوكل له الإشراف عليها على أفضل وجه، أنه كان يقرأ المقالات الواردة للنشرــ سواء من الداخل أو من الخارج ــ بدقة وعناية، بل كان يفحصها بنفسه فحص الخبير اللغوي المتمكن، على الرغم من وجود مصححين لغويين في الجريدة. وفوق هذا وذاك، كان يتواصل شخصيًا مع الزملاء المتعاونين مع الجريدة عبر الهاتف للاستفسار عن صحتهم أو الإشادة بما أرسلوه من مقالات، الأمر الذي ربطه بروابط صداقة وعمل وفكر مع ثلة من رموز الصحافة العربية أوالحقل الأكاديمي من أمثال الراحل إسحاق الشيخ يعقوب والمفكر الكويتي أحمد البغدادي والكاتب المستنير خليل علي حيدر وعميد كلية الشريعة السابق بجامعة قطر الدكتور عبدالحميد الأنصاري، واستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة البحرين الدكتور عبدالله عبدالرحمن يتيم والروائي البحريني أحمد جمعة، والإعلامية القديرة سوسن الشاعر.

مع انطلاق المشروع الإصلاحي لجلالة الملك المعظم مطلع الألفية الثالثة، حرص سعيد الحمد أن يواكبه لحظة بلحظة، ليس من موقعه الصحفي والفكري فحسب وإنما أيضًا من موقعه كمواطن بحريني ينشد الإصلاح والتغيير والخير لوطنه وشعبه. إذ كان من أشد المتحمسين للحدث والمستبشرين خيرًا من ورائه والمتطلعين إلى جني فوائده وثماره. ولعل من آيات ذلك أنه تقدم الصفوف لإدارة أول ندوة جماهيرية سياسية حاشدة في البدايات المبكرة لعملية الانفتاح السياسي، أي حينما لم تكن الأمور جلية بالكامل وكان البعض مترددًا أو لا يزال واقعًا تحت تأثير الحقبة السابقة وظروفها. عقدت الندوة، التي عـُدتْ بمثابة إيذان ببدء الحراك السياسي، في الرابع عشر من يناير 2001 أمام نادي الخريجين بالمنامة، وفيها تجلت قدرات ومواهب الحمد في إدارتها والسير بها بهدوء والسيطرة على مجرياتها بنجاح لافت، ما أكسبها اهتمام وسائل الإعلام الخليجية والعربية والأجنبية.

على أن البروز الإعلام الأكبر لسعيد الحمد وانتشار اسمه على المستويين الخليجي والعربي جاء في أعقاب الفتنة التي شهدتها البحرين عام 2011 إبان موجة ما أطلق عليه زورًا اسم «الربيع العربي». فوقتذاك استل الرجل يراعه بثقة وشجاعة وراح يكتب مدافعًا عن البحرين وشعبها المخلص وقيادتها الشرعية، مفندًا مزاعم الأعداء والحاقدين والمأتمرين بأمر الخارج، وباسطًا الحقائق أمام الرأي العام العالمي دون أن يثنيه عن ذلك الخوف على حياته أو القلق على أسرته الصغيرة. وفي موازاة الكتابة الصحفية خرج على شاشة تلفزيون البحرين أولاً ثم على شاشة «قناة الاتحاد» الخاصة ليدعم رأيه وموقفه بالصورة الحية وبالمقابلات والحوارات والمشاهد الدامغة. لم يكن ما فعله الرجل رغبة منه في ركوب موجة الأضواء والشهرة خارج حدود البحرين، وإنما كان عمله منطلقًا من إيمانه العميق بواجباته الوطنية في ساعات المحن والشدائد فحسب.

ولعل ما يؤكد زهد الحمد في الأضواء والبروز هو أنه ــ بحسب علمي وقربي منه ــ كثيرًا ما رفض عروض السفر إلى الخارج ضمن الوفود الإعلامية للمشاركة في المؤتمرات والندوات والاحتفالات، مفضلاً عليها البقاء داخل البحرين لمزاولة عمله الصحفي اليومي، وممارسة هواية القراءة والاطلاع، ومكتفيًا بإجازته السنوية التي كان يفضل دومًا قضاءها في بلد هادئ ذي طبيعة خلابة وبحر أو نهر ساحر. وكانت الكتب هي رفيقة أسفاره الوحيدة، ينتقي مجموعة مختارة منها ويحملها معه في حقيبته ولا يعود إلا وقد انتهى من قراءتها قراءة تأملية متعمقة.

ولأن الحمد من أبناء جيلنا الذين استمدوا وعيهم الثقافي المبكر من قراءة المجلات المصرية الأسبوعية، والانبهار باستطلاعات مجلة العربي الكويتية المصورة، والهيام بمشاهدة برامج تلفزيون أرامكو من الظهران والأفلام المصرية القديمة، فقد كانت بيني وبينه قواسم وهوايات مشتركة عديدة على رأسها جمع كل ما يتعلق بتلك الحقبة من مجلات وصور وكتب، ناهيك عن الحرص على متابعة ما تعرضه بعض القنوات التلفزيونية من أفلام الأبيض والأسود العربية، واجترار الذكريات البعيدة عنها. وأتذكر أنه أسرّ لي ذات مرة أنه في مرحلة الصبا، يوم أنْ دخل التلفزيون منزل والده لأول مرة، كان يجمع صبية فريجه (حييه) المحرقي ولا يسمح لهم بدخول غرفة التلفزيون إلا بعد أن يقطعوا تذاكر الدخول ويجلسهم في أماكنهم المخصصة، أي على نحو ما يحدث عادة في دور العروض السينمائية والمسرحية، وهو ما مارسته شخصيًا مع أقراني زمن إقامتي بمدينة الخبر في خمسينات القرن الماضي.

والحقيقة أني كنت محظوظًا لأن القدر وضع هذا الرجل في طريقي، فعرفته عن كثب وزاملته واستفدت من نصائحه وخبرته وثراء مخزونه المعرفي.

رحم الله أبا عبدالله، الإنسان النادر الشجاع ذا الذائقة الفنية الرفيعة والأخلاق العالية والكرم الحاتمي والشخصية الإعلامية الآسرة والحس الوطني العروبي الفياض، وجزاه عنا خير الجزاء عما قدمه في سبيل البحرين والخليج العربي على مدى سنوات عمره، وخالص العزاء لرفيقة دربه وعقيلته الأخت الكريمة أمينة الشملان، ولأبنائه عبدالله ورشا ودلال، ولإخوته خالد ويوسف وعواطف وسعاد والدكتورة لطيفة، وكافة آل الحمد وآل الفوزان وآل الشملان وسائر محبيه وتلامذته ورفاقه الكثر داخل البحرين وخارجها.