ليس هناك ما يدعم تأكيدات الرئيس الأمريكي جو بايدن، أن اقتصاد بلاده سيحقق نموا أكبر من ذاك الذي سيحققه اقتصاد الصين، رغم أن التوقعات بشأن مستوى نمو هذا الأخير ليست جيدة، على اعتبار أنها دون المعدل الأدنى الذي وضعته بكين. الواضح على الساحة الأمريكية أن النمو سيبقى بطيئا لفترة عامين على الأقل، وهناك احتمالات أن يواصل على هذه الوتيرة حتى منتصف العقد الحالي. ولعل هذا ما زاد من أعداد المتشائمين الذين باتوا يتحدثون بطلاقة عن اقتراب أكبر اقتصاد في العالم من حافة الركود، مع استثناء الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي يرى أن بلاده دخلت فعلا حالة ركود، فهذا الرجل يعتقد لأسباب سياسية وحتى شخصية، أن بايدن تسبب في دمار الاقتصاد الأمريكي.
وبعيدا عن هذه الرؤية "الترمبية" المتطرفة، فاقتصاد الولايات المتحدة يمر بالفعل بواحدة من أكثر المراحل اضطرابا وتشويشا، متأثرا بحال الاقتصاد العالمي، ومؤثرا فيه أيضا. لم تكن مسألة الركود مطروحة بداية العام الجاري، ولا سيما أن اقتصاد أمريكا حقق كغيره من الاقتصادات المتقدمة نموا كبيرا جدا في العام الماضي، ضمن سياق ما يمكن وصفه بالتعويض عن الانكماش الذي ضربه وضرب العالم. انكماش أتى في الواقع من التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا. إلا أن الأوقات تتغير وبدلت معها معطيات كثيرة، مع استفحال الموجة التضخمية العالمية، والاضطراب المتصاعد في سلاسل التوريد، واستمرار الحرب الروسية - الأوكرانية الأخطر في القارة الأوروبية والعالم أجمع منذ الحرب العالمية الثانية.
صحيح أن الاقتصاد الأمريكي حقق العام الماضي أسرع نمو منذ 40 عاما "مرة أخرى بفعل التعويض" لكن هذا النمو لم يتسم بأهم عامل، وهو الاستدامة. مع أول منعطف انخفض إلى معدلات مقلقة، الأمر الذي وسع نطاق الحديث عن إمكانية وصول الركود إلى الساحة المحلية. بنك جولدمان ساكس خفض توقعاته للنمو الاقتصادي الأمريكي، إلى 2.4 في المائة هذا العام، و1.6 في المائة في العام المقبل. إلا أن المشكلة تكمن في مدى قدرة الاقتصاد على الصمود بحلول العام الجاري، في ظل زيادات جريئة، بل نادرة لأسعار الفائدة. هذه الزيادات التي تعهد المجلس الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي"، بمواصلة اعتمادها في الفترة المقبلة، لماذا؟ للسيطرة على التضخم الذي بلغ أعلى مستوى له منذ أكثر من أربعة عقود.
هذه الأداة التقليدية لكبح جماح التضخم، لا تزال الوحيدة في أيدي المشرعين الأمريكيين، تلملم ما أمكن من آثار التضخم، لكنها تضرب النمو المطلوب. لكن المصيبة لا يزال تأثيرها في احتواء الموجة التضخمية ضعيفا، إلى درجة أن اضطر الرئيس بايدن، لوقف مؤقت للضرائب المفروضة على الوقود في بلاده، للتخفيف قدر الإمكان عن المستهلكين، الذي بدأوا بالفعل في الاعتماد على مدخراتهم وأموال التقاعد الخاصة بهم، لمواجهة ارتفاع تكاليف العيش، فضلا عن شرائح لا تملك لا مدخرات ولا مالا تقاعديا، اضطرت في النهاية إلى اللجوء للمعونات الحكومية، بما في ذلك زيادة أعداد أولئك الذين باتوا بالفعل يعيشون على "الكوبونات" أو قسائم الإعاشة التي تنتشر عادة في أوقات الحروب.
رغم أن صندوق النقد الدولي يعد من أكثر الجهات المتفائلة بعدم دخول الاقتصاد الأمريكي حالة من الركود، إلا أنه قام أخيرا بتعديل توقعاته للنمو نحو الأسفل من 3.7 إلى 2.9 في المائة للعام الحالي، مع مواصلة توقعاته أن الولايات المتحدة ستتجنب "بالكاد" ركودا اقتصاديا. لكن ذلك لا يتوافق كما هو واضح مع رؤى المستثمرين وأصحاب الأعمال وقادة الحراك الصناعي والخدمات وغيرها. فنسبة كبيرة من هؤلاء لا يستبعدون الركود، بصرف النظر عن عمقه أو مدته. من هنا يمكن قراءة المعادلة الاقتصادية الأمريكية الراهنة على الشكل التالي: نمو متباطئ، يرى البعض أنه ضروري لتهدئة الأجور وخفض التضخم، دون التركيز الآن على تحقيق هدف "الاحتياطي الفيدرالي" بتضخم لا يزيد على 2 في المائة. أما الطرف الآخر من المعادلة، فهو ركود مخيف، سيكون قاسيا حتى على الاقتصاد الأكبر عالميا.
البيانات غير المستحبة بأرقامها، لا تتوقف على الساحة الأمريكية، والأهم أن مخططات احتواء التضخم عبر رفع تدريجي متواصل للفائدة ستتواصل في الفترة المقبلة، ما يعزز الاعتقاد أن النمو البطيء المأمول قد يتوقف في مرحلة قريبة ما، وهذا ما يخيف إدارة الرئيس بايدن، الذي تحدث الشهر الماضي فقط، أي خلال الأزمة، عن نمو أمريكي مقبل يفوق نظيره الصيني. ربما يكون الركود الأمريكي ليس حتميا، كما يقول بايدن، وجانيت يلين، وزيرة خزانته، لكن احتمالات أن يكون مؤكدا ليست أقل. فالتوقعات الاقتصادية الأكثر صدقية، هي تلك التي تأتي عادة من الميدان، وليست من الدوائر السياسية، التي تعمل بكل ما يمكن من قوة لإبراز الآمال، كمسكنات لمريض يحتاج بالفعل إلى عملية جراحية سريعة.