رغم تطابق آراء بني البشر الأسوياء بأن الحروب لمن أسوأ القرارات التي يمكن أن تتخذها الدول والشعوب أو تجر إليها جراً، مثلما هو حاصل مع روسيا الاتحادية اليوم حين لم توفر لها أمريكا وبريطانيا وكل دول الناتو مخرجاً يتيح لحالة السلم أن تكون قائمة بينها وبين أوكرانيا، بل وسعت بشتى الوسائل المعلنة والخفية إلى أن تكون الحرب حتمية تاريخية وقدراً واقعاً لا مهرب للروس منه، ولعل الحال نفسه ينطبق الآن على أوكرانيا التي لا حول لها ولا قوة في تحديد مصير الحرب الجارية لارتهان قرار حربها بيد أمريكا ودول حلف الناتو!

ورغم هذا الوضع المأساوي فإن الآمال اليوم بشأن هذه الحرب تحدونا بأن يبقى هذا النزاع دائراً هناك فحسب، وألا تتطاير شراراته لتُشعل حرائق الحرب في بلاد أخرى أو بقعة أخرى من بقاع العالم؛ لأن ذلك، لو حصل، فسيكون إيذاناً باندلاع حرب عالمية ثالثة لن تبقي ولن تذر. واقع الحرب الروسية الأوكرانية أجج أيضا نيران التساؤل حول أسباب الحرب وأطوارها ومقاصدها ومآلاتها، ولكن يبقى السؤال الأكبر المطروح اليوم هو: هل تسمح أمريكا وبريطانيا لأوكرانيا بأن تجلس مع روسيا إلى طاولة المفاوضات لوقف هذه الحرب المدمرة؟

مجريات الحرب وتدفق السلاح بهذه الغزارة لا ينبئان بتوقف هذه الحرب في المدى المنظور، رغم الدمار الذي تحدثه الآلة العسكرية الروسية في البنى التحتية الأوكرانية العسكرية والمدنية، وأصبحنا نشهد الآن سباقاً للتسلح بين دول الناتو وروسيا قاد إلى تطوير مستمر لمنظومات السلاح التي وجدت في الأراضي الأوكرانية ميداناً لاختبار حي ومجالا لاختبار الخطط والتكتيكات العسكرية. ومن الطبيعي أن تكون لهذا الواقع انعكاساته المريرة على سكان المناطق التي تدور فيها رحى المعارك العسكرية التي ما تزال إلى الآن محصورة في شرق أوكرانيا في منطقة الدونباس، ولكن من يضمن أنها لن تتمدد إلى الشمال أو الغرب أو إلى كليهما معا وتتجاوزهما؟!

بعد أن سكتت الأصوات المنادية بوقف إطلاق النار والتي كان مصدرها الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني، نشهد اليوم تصاعداً أكبر لصوتي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا اللذين لا يبدو أنهما يدفعان المتحاربين إلى الجلوس إلى مائدة المفاوضات، بل إنهما يدفعان زيلينسكي دفعاً إلى الاستمرار في الحرب؛ ليواجه زيلنسكي نفسه رغبتهما في استمرار الحرب بزيادة طلباته من السلاح و«الكاش»، حتى يبدو لك أن هناك مصلحة متبادلة (احتياجات متبادلة) لاستمرار الحرب بين الحكومة الأوكرانية وأمريكا وبريطانيا. وإلا لماذا هذا الإصرار على استمرار المعارك رغم وضوح فارق القوة بين المتحاربيْن، وتحقيق الروس انتصارات يعتقد أن بطأها مقصود ومحكوم باستراتيجية روسية لا يعلم أحد مداها إلا حاكم الكريملين، ورغم سيطرة قوات موسكو حتى الآن على أكثر من عشرين في المئة من الأراضي الأوكرانية؟ ثم ما مصلحة أمريكا ومن وراءها من إطالة أمد الحرب التي ألهبت أسعار الطاقة والغذاء وجعلت الدول الداعمة لمغامرة زيلنسكي الحمقاء أول المكتوين بنيران حرب الطاقة والغذاء؟

هذا السؤالان يطرحهما كل مهتم بمتابعة وقائع حرب الإرادات هذه بين روسيا وأمريكا والتي فرضت على أوكرانيا أن تكون بين فكي المتنازعين الكبيرين وأن تكون وقودا لهذه المعركة الحاسمة، وهو وضع جعل كثيراً من المحللين العسكريين يتساءلون في ظل محاولات الإجابة عن سؤال مآلات هذه الحرب عن جدوى تدفق السلاح إلى أوكرانيا في هذه الحرب غير المتكافئة، ألا يُعد ذلك استفزازاً لروسيا قد يجعلها تطيل أمد الحرب إلى الشتاء القادم ليجعل الدول الداعمة لأوكرانيا تواجه موجات البرد والصقيع بخزانات غاز خاوية وحكومات عاجزة عن تلبية حاجات الناس إلى شيء من الدفء والطعام؟!

ثمة حقيقة أخرى يمكن للمتابع رصدها وهي أن الحرب، بعد أن كانت مجرد عملية عسكرية محدودة عند انطلاقها، فإننا نشهد لها اليوم تداعيات اقتصادية خطيرة على معيشة شعوب العالم قاطبة نتيجة العقوبات الاقتصادية الجسيمة التي فرضها الغرب على روسيا، وهناك شعور بالهلع من انتشار مجاعة وخصوصا في الدول الفقيرة شحيحة الموارد أو فقيرتها. فالعقوبات الاقتصادية التي فرضتها أمريكا مع دول الغرب استهدفت بها روسيا؛ فإذا بها تستهدف جل دول العالم وخاصة منها الدول الفقيرة التي لا يمكن لأحد أن يتصور حجم الكوارث التي ستتعرض لها في حال قطع إمداد الأغذية والمواد الأولية.

ليس واردا الآن أن تؤخذ الخسائر الجسيمة التي تتعرض لها أوكرانيا بمعاونة ثلاثين دولة من جهة وروسيا من جهة أخرى في الحسبان؛ ذلك أن الحرب الدائرة هناك هي حرب كسر إرادات بين روسيا والدول الغربية، فمن يتحمل أكثر ويصبر أكثر هو من سيربح الحرب. وبطبيعة الحال فإن أوكرانيا وهي الطرف الأساسي في الحرب ليست معنية هنا بحرب الإرادات هذه، بل هي الخاسر الأكبر وكل ما عليها فعله هو أن تراكم خسائرها البشرية والمادية إلى أن تأذن لها أمريكا وبريطانيا لسبب من الأسباب بالجلوس إلى طاولة الحوار، وإعلان تسليمها وخضوعها لإرادة الجار الروسي الذي لا أظنه في ظل مجريات الأمور الآن سيخرج خاسرا من هذه الحرب المعقدة.