ردَّ رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية المنتهية ولايتها، عبدالحميد الدبيبة، جانبا من أزمة الكهرباء المتفاقمة بقوة هذه الأيام في بلاده إلى تعدين عملة البيتكوين الرقمية.

وقال خلال كلمة أمام أعضاء المجلس البلدي بمدينة مصراتة الأحد الماضي إن “عملة البيتكوين يجري تعدينها في ليبيا، وهو ما يؤثر على قدرات الشبكة الكهربائية”، وأضاف أن هناك من نقلوا إليه معلومات مفادها أن “مصنع البيتكوين موجود في ليبيا، وليبيا هي رقم 2 على مستوى العالم لتعدين البيتكوين”، ولقطع الطريق أمام المشككين في مثل هذه المعلومات، أوضح الدبيبة أن “80 في المئة من المعلومات الخاصة بتعدين البيتكوين في ليبيا صحيحة”.

هذه التصريحات جاء بعد أيام من إقراره في اجتماع لمجلس الوزراء بالمسؤولية عن مشكلة الكهرباء، حيث قال أثناء نقل مباشر عبر وسائل الإعلام “كلنا مسؤولون عن مشكلة الكهرباء ونتحمل كل المسؤولية”. متابعا أن الحكومة واجهتها تحديات جسام في ملف الكهرباء، واعدا أن تعمل على مواجهتها بكل ما تملك، بينما تتهم المعارضة السلطات التي تداولت على حكم البلاد منذ العام 2011، وآخرها الحكومة المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي، بتجاهل الاحتياجات الأساسية للشعب الليبي وفي صدارتها الكهرباء، وبالتورط في الفساد الذي ضرب كل مناحي الحياة وأثر بالسلب على الخدمات العامة.

أثارت مزاعم الدبيبة بوجود صلة بين أزمة الكهرباء وتعدين عملة البيتكوين جدلا واسعا في الأوساط الليبية، حيث اعتبرها البعض فضيحة بأتم معنى الكلمة، وتأكيدا على أن الحكومة ليس لها مستشار علمي يمكن أن تستوضح منه عن مثل هذه المواضيع الشائكة. وقال آخرون إنها محاولة بائسة ويائسة للتهرب من المسؤولية والإلقاء بها على عاتق أطراف من خارج سياقات السلطة وذات علاقة بأطراف خارجية، وقد يكون ذلك تمهيدا لتوجيه الاتهام مباشرة إلى مافيات وعصابات مجهولة بالتآمر على الأمن القومي الليبي وذلك بالتسلط على الكهرباء واعتمادها لتعدين عملة رقمية كان المصرف المركزي قد حظرها منذ العام 2018 ورجال دين قد حرّموا تداولها بين الناس.

كما أن مزاعم الدبيبة تلك قد تكون مجازفة للدفع بعامة الشعب إلى صحراء واسعة من التهويمات غير المنطقية، وذلك ضمن سياساته وخطاباتها الشعبوية التي طالما اتسمت بتكريس الوهم لكسب ولاء البسطاء من أصحاب الأصوات القابلة للاستثمار في صناديق الاقتراع، وهو الذي يتمسك بالسلطة ويرفض التداول السلمي عليها، ويطمح للبقاء فيها طويلا كممثل لمشروع أسري وفئوي يهدف إلى بسط النفوذ على مقدرات البلاد تحت غطاء شرعية دولية فضفاضة أثبتت فشلها خلال السنوات الماضية، وأكدت أن القائمين عليها يبحثون بدورهم عن مصالح يمكن أن يجدوها لدى سلطة كتلك التي نراها اليوم في طرابلس والتي لا تعدو أن تكون امتدادا لسابقتها برئاسة فائز السراج.

وللعلم فإن تقريرا سابقا لوكالة بلومبيرغ الأميركية قال إن ليبيا تتصدر الدول العربية في عمليات تعدين عملة البيتكوين بنسبة 0.13 في المئة من الإنتاج العالمي، ووفق تقرير لمركز جامعة كامبريدج للتمويل البديل، سجلت ليبيا في الفترة الفاصلة بين سبتمبر 2019 وأبريل 2020 متوسط ​​0.6 في المئة من عمليات تعدين البيتكوين في جميع أنحاء العالم. لكن الأخصائيين يرون أن الأمر ليس بالصورة التي تحدث عنها الدبيبة، وأن وجود بعض المحاولات من بعض الشباب الليبي لا تصل إلى حد الظاهرة التي قد تتسبب في أزمة الكهرباء المتفاقمة منذ سنوات كعنوان لطبيعة الفساد المتمدد في البلاد، والذي لا يختلف عمّا يجري في دول أخرى معرضة بشكل دائم لنهب ثرواتها والسطو عل مقدراتها تحت حكم الميليشيات كالعراق ولبنان.

ويحتاج تعدين البيتكوين إلى استقرار واستمرار وقوة تدفق دائمة في الطاقة الكهربائية وشبكة الإنترنت، وهو ما لا يوجد في ليبيا، خاصة في فصل الصيف، ولاسيما أن العملية معقدة وصعبة بطبيعتها، وتتطلب معدات وبرامج مخصصة تقوم بعمليات حسابية معقدة وطويلة، لكن ما يتم الترويج له من وجود مزارع في ليبيا لتعدين البيتكوين (يديرها أشخاص غير ليبيين طبعا) لا يعدو أن يكون هراء من ذلك القبيل المعتمد في الضحك على الذقون، خصوصا أن الدبيبة نقل المعلومات عن جهات لم يذكرها، ودون أيّ دليل جنائي يمكن أن يكشف عن تورط جماعات أو مؤسسات أو أفراد بعينهم في مناطق نفوذه ومنها العاصمة طرابلس ومدن الغرب الساحلية.

كان يمكن لرئيس حكومة الأمر الواقع في طرابلس، أن يبحث عن الأسباب الحقيقية والواقعية لأزمة الكهرباء، والتي كانت قد أشارت إليها قوى أجنبية عدة من بينها مجموعة العمل الاقتصادية الدولية والبنك الدولي والبعثة الأممية وسفارة الولايات المتحدة وغيرها دون أن تذكر شيئا عن تعدين البيتكوين، وكان من الأفضل لو أن الحكومة نجحت في حل مشاكل الفساد والبنية التحتية للكهرباء والوقود وتصدت للصوص الأسلاك النحاسية والمافيات التي تدير تحركاتهم وتجمع مسروقاتهم وتشرف على تصديرها إلى الخارج، بل إلى دولة بعينها معروفة بأنها أصبحت قبلة للصوص وما يسرقون.

قبل عام، أي في يوليو 2021، تحدث الدبيبة عن فضيحة تعاقد مؤسسة الكهرباء مع شركة وهمية بإحدى دول المنطقة لتوريد مستلزمات بعض المحطات الكهربية. العارفون بخفايا الأمور يؤكدون أن ذلك العقد ليس إلا قطرة من بحر الفساد في بلد يعاني منذ سنوات طويلة من الصراع القائم على تقاسم منافذ نهب الثروة والسطو على المال العام بين الحيتان الكبيرة والقطط السمان. في تلك الأثناء، كانت المصروفات لتي خصصت لشركة الكهرباء في ليبيا قد بلغت خلال 8 سنوات نحو 23.5 مليار دولار، وهو رقم كبير للغاية، يضاف إلى ذلك تقارير ديوان المحاسبة عن ضخامة حجم السرقات.

ولم يعد خافيا، أن من بين أولويات حكومة الدبيبة هو تحصين الفاسدين وحمايتهم ورعاية مصالحهم بعد أن تحوّلوا إلى رقم صعب في الشؤون السياسية والعلاقات الخارجية وفي إدارة المال العام وعقد الصفقات وتوقيع الاعتمادات وشراء الذمم وتوزيع الوظائف، وفي العلاقة مع الميليشيات وأمراء الحرب والمرتزقة والقوات الأجنبية وحتى رجال الدين ممن يوفرون الغطاء الشرعي والأخلاقي للسلطات القائمة.

ولعل وجود رجال الأعمال الفاسدين في دائرة القرار السياسي والاقتصادي وحتى الأمني، واحتفاظ المشرفين على أغلب المؤسسات السيادية على مواقعهم منذ سنوات طويلة رغم التقارير التي تثبت تورطهم في الفساد، يشير إلى طبيعة الوضع الذي يتحرك فيه الدبيبة، والى أسباب الدعم الذي يلقاه من بعض الأطراف الداخلية والخارجية ولو كان ضد إرادة الأغلبية الساحقة من الليبيين. ففي بلد غني كليبيا يكون القرار الأخير بيد من يبسط نفوذه على مفاتيح المصرف المركزي ودفتر الصفقات، وكل شرعي من الناحية النظرية لا يكون شرعيا بالفعل إلا إذا كان مستندا إلى دعم الكبار المستفيدين من وجوده في مركز القرار سواء من بارونات الداخل أو أباطرة الخارج.

إن أزمة الكهرباء، ليست إلا مؤشرا على ما يشهده المشهد العام في ليبيا من تلاعب بمصلحة الشعب الذي حتى عندما استبشر قبل أسبوعين بتحرك في الشارع يناصر قضاياه ويدافع عن حقوقه، فوجئ بأن سياسة الترهيب والترغيب أخرست الناشطين وأطاحت بشعارات المحتجين. كما أن حديث رئيس الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب فتحي باشاعا عن وجود فرصة لتولي حكومته مقاليد الحكم من داخل طرابلس، جعل أمراء الحرب يسارعون بالاجتماع تحت يافطة الحكومة المنتهية ولايتها لتنسيق المواقف ووضع خطة لحماية حكومة الأمر الواقع ولو بالدفع نحو حرب أهلية جديدة، وهو أمر قد يستمر طويلا، فالدبيبة يبدو اليوم معتمدا في تمسكه بمكتبه في طريق السكة على كل ما يمكن أن يدفع نحو الخراب لا نحو البناء، ونحو التقسيم لا نحو التوحيد، ومن ذلك شيوخ الفتنة وعلى رأسهم الصادق الغرياني، ورموز الإرهاب والفساد وأمراء الحرب وقادة الميليشيات والمرتزقة الأجانب وغيرهم، بالإضافة إلى القوى الأجنبية ذات الأطماع المعلنة والتي ترى فيه أفضل من يمكن أن يخدم أجنداتها مقابل الإبقاء عليه في موقع القرار.

رد الدبيبة أزمة الكهرباء إلى تعدين البيتكوين، وهو مستعد لتبرير كل الأزمات، فقط لإقناع المغفلين بأنه أحرص الناس على مصلحة ليبيا وأكثرهم إصرارا على تنظيم انتخابات تضمن له الاستمرار في الحكم، لأنه يدرك جيدا أن تسليمه مقاليد السلطة إلى حكومة باشاغا سيرمي به بعيدا عن الأضواء كما حدث مع السراج وسيفقده إلى الأبد إمكانية العودة إلى المشهد السياسي العام كمترشح لنيل ثقة الناخبين.