الكلمة المهمة التي وجهها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، كانت أكثر من خطاب سياسي ظرفي، بل إنها تضمنت رؤيةً مستقبليةً كاملةً لسياسة الدولة وتوجهاتها الداخلية والخارجية تتسم بالعمق والوضوح والوجاهة.
ليس الغرض هنا الحديث عن معالم المشروع النهضوي التنموي الإماراتي الرائد، الذي وضع مرتكزاتِه مؤسسُ الدولة وباني وحدتها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وعمل على تطويره المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، وبلور آفاقه الواعدة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله.. بل سنكتفي برصد التوجهات الكبرى في الدبلوماسية الإقليمية والدولية الإماراتية من منظور خطاب صاحب السمو رئيس الدولة.
ما يتعين التنبيه إليه هو أن هذه التوجهات تجمع بين ثوابت كبرى ارتبط بها النموذج الإماراتي منذ قيامه ونقاط تحول نوعية اقتضتها وضعية العالَم الجديد في طور التشكل المتسارع. ومن هذه الثوابت محدداتٌ ثلاثة هي:
- تثبيت وتوطيد تجربة الاندماج الخليجي، باعتبار أن دولة الإمارات من حيث موقعها الجغرافي وتركيبتها البشرية ودوائر جوارها المباشر، محور أساسي من محاور البناء الخليجي الذي كان منذ قيام الدولة الاتحادية في صلب وعمق السياسات الإقليمية للدولة.
- التمسك بضوابط ومعايير التضامن العربي، في أبعاده الاستراتيجية والأمنية والتنموية، من منظور قراءة ثاقبة وموضوعية للمعادلة الإقليمية في الشرق الأوسط بمفهومه الموسع، تفضي ضرورةً إلى العمل على بناء كتلة عربية فاعلة ومؤثرة في توازنات وديناميكيات هذا الفضاء الذي تنتمي إليه قوى مكينة تتقاطع وتتداخل وتتصادم في مصالحها مع الدائرة الإقليمية العربية.
- اعتماد قيم السلم والتسامح والتضامن معايير لدبلوماسية دولية ناجعة، ترفض العدوان والتدخل الخارجي غير المشروع واستخدام العنف والتوسع في حسم الصراعات الدولية، كما ترفض منطق الانحياز الأعمى والتبعية السلبية.
إن هذه الثوابت الكبرى شكلت الإطار المرجعي الدائم للسياسية الخارجية الإماراتية، سواء تعلق الأمر بمشاريع الاندماج الخليجي والتضامن العربي أو باعتبارات التوازن الديبلوماسي في المواقف الدولية.
ولقد عرف العالم والمنطقة في السنوات الأخيرة عدة تحديات كبرى تطلبت تكييف هذه الرؤية مع المستجدات الراهنة، من بينها على الخصوص: عودة الصراع الجيوسياسي إلى الخارطة العالمية، وتفكك النظام الإقليمي العربي جراء موجات التغير الراديكالي في السنوات العشر الماضية، وصعود المليشيات المتطرفة والمأدلجة والتنظيمات الإرهابية في الحياة السياسية العربية، وتزايد مخاطر الاختراق الخارجي للأمن الإقليمي العربي.
ولمجابهة هذه الاختلالات، اضطلعت الإمارات بدور إيجابي فاعل في الدفاع عن الأمن الإقليمي العربي، وسعت إلى دعم الاستقرار والسلم الأهلي في البلدان العربية التي عاشت أو ما تزال تعيش أزمات الانتقال السياسي الحادة، ووقفت بقوة ضد الجماعات الراديكالية المتطرفة الإرهابية، ودافعت عن منطق الشرعية والسيادة في الحفاظ على كيانات الدول المهددة بالضياع والتفكك، كما سخَّرت إمكاناتها الاقتصادية والاستراتيجية في مساعدة البلدان المعرَّضة للانهيار أو التمزق. كما شكّل المحور الإماراتي السعودي نواةً قويةً لبناء خليجي صلب، وقاعدةً لمنظومة عربية متكاملة موسَّعة لدول الاعتدال في المشرق والمغرب.
وعلى المستوى الدولي، طورت الإمارات مفهومين جديدين في الفلسفة الديبلوماسية، هما دبلوماسية الشراكة المرنة والمتنوعة، ودبلوماسية السلم والتسامح. المفهوم الأول يندرج في نطاق التصورات الواقعية والحركية للمعادلة الدولية الجديدة التي لم تعد تقوم على منطق الأحلاف الثابتة والتموقع الجامد، بل تتطلب تنويع الشراكات والانفتاح الإيجابي على الأقطاب الدولية التقليدية والصاعدة، واستخدام عناصر القوة الصلبة والناعمة في توطيد الدور الديبلوماسي على الصعيد الخارجي.
وفق هذه الرؤية، تحولت الإمارات إلى دولة محورية في المنظومة الشرق أوسطية الواسعة والى شريك لا غنى عنه بالنسبة لكل القوى الدولية الكبرى. أما المفهوم الثاني فينطلق من طبيعة الخيارات المجتمعية والحضارية الكبرى التي تبنتها الإمارات في توجهاتها الداخلية، وبنَت عليها تصوراتها في الشؤون الخارجية.
لقد أدركت الدبلوماسية الإماراتية بذكاء خارق أن طبيعة الصراعات الدولية الجديدة تتمحور حول نزاع الهويات الدينية والثقافية والإثنية، فبنت مقاربتها الاستراتيجية على السعي لبناء علاقات إنسانية منفتحة تقوم على احترام الاختلاف والتنوع والتمسك بقيم التسامح والسلم. الأمر هنا يتجاوز المعايير القانونية الدولية التي هي مجرد التزامات نظرية غائمة، إذ يتجسد عملياً في مواثيق ومعاهدات وإعلانات عقدية وفكرية ومؤسسات ثقافية ومدنية ومبادرات جريئة، بما يفسر كيف أصبحت الإمارات في السنوات الأخيرة عاصمةَ الحوار الحضاري العالمي وملتقى الأديان والملل والثقافات، كما أنها أول بلد تبنى في مدونته القانونية تجريمَ ازدراء الأديان وتحريم مظاهر العنصرية والكراهية واعتماد التسامح والسلم مسلكاً للحكم وإطاراً للعلاقات الخارجية.
وهكذا بتسلم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد مقاليد الحكم قبل شهرين، يتعزز الموقع الإقليمي والدولي للإمارات في نهجها الجامع بين التشبث المطلق بمنطق السيادة والاستقلال من جهة، ومن جهة أخرى الانفتاح الإيجابي على الخارج ضمن منظور التضامن الإنساني الكوني الذي هو المرجعية الفلسفية العميقة للنهج الإماراتي.