يجدر التذكير، بأن وجود سلطات ناظمة للعلاقات الاجتماعية، قديم قدم تاريخ البشرية المكتوب. ولم يرتبط بوجود الدولة، التي هي ظاهرة حديثة، ارتبطت بعصر القوميات، ومن قبلها كانت إمبراطوريات وسلطنات وممالك وإمارات، كانت تمارس ذات الدور الذي تمارسه الدولة بمفهومها الحديث، باستثناء غياب الهياكل والمؤسسات والدساتير، ومشاركة الجمهور في تداول السلطة وصنع القرار.

بمعنى آخر، وجود سلطة وسيطة تدير التنافس في المجتمع الواحد، هو أمر ضروري لمنع التنافس والحروب الأهلية، ولتحقيق السلم الاجتماعي، ارتبطت بتواجد التجمعات البشرية، التي تشير أغلب القراءات، أنها تحلقت حول الأنهار.

في التاريخ القديم، وجدت سلطات، مهمتها ليس فقط الفصل بين الصراعات بالمجتمع الواحد، بل وتنظيم حركة الري. ولكن دور السلطة لم يكن متماثلاً ومتواصلاً في جميع البلدان. فسطوة الدولة تكون أكثر في مناطق الأنهار، منها في مناطق الزراعة المطرية. لأن الأخيرة طابعها قدري، وتعتمد على نزول الأمطار، ولا تحتاج باستمرار لسلطة تنظم عملية الري فيها. وذلك ما يوفر وجود وحدة سياسية، استمرت آلاف السنين في وادي النيل، وانقطاع هذه السلطة، وتعدد مناطقها فيما بين النهرين؛ حيث تواجد نهران عظيمان وأنهر صغيرة أخرى، بالإضافة إلى الزراعة المطرية.

في مصر، على سبيل المثال، احتاج الفلاح المصري، إلى بناء القناطر والسدود، بما هو فوق طاقته، إضافة إلى حاجته لتنظيم علاقته بالفلاحين الآخرين، بما يتطلب وجود سلطة تضطلع بذلك، وتحدّد ضوابط توزيع الثروة المائية وري الأراضي الزراعية.

فعدم تنظيم توزيع هذه الثروة بالري، من الممكن أن ينتج عنه صراع المصالح بين الناس، بحيث يتمكن من له الغلبة من الاستحواذ على الثروة المائية وحرمان غيره منها. ومن المؤكد أن ذلك ينتج عنه تطاحن وحروب. إضافة إلى ذلك، فإن من يقيمون مباشرة قرب ضفة النهر، بمقدورهم أن يسيئوا استعماله، إما بالإسراف في استخدامه أو بحبسه عمن يقع في أسفله. وهذا يعني أن الفلاح الذي تقع أرضه قرب حوض علوي يستطيع أن يتحكم في حياة أو موت كل الأحواض السفلية.

في القرن الماضي أدرك رفاعة رافع الطهطاوي، أحد أركان النهضة المصرية الحديثة، أهمية الوحدة المائية بالنسبة لمصر، فربط بين أسباب التفكك السياسي لعصر المماليك وبين فوضى توزيع الثروة المائية، فأشار إلى أن من أسباب تفكك عصرهم أنه «كان في أيامهم لكل قسم وكل قرية ترع وجسور خصوصية لا ينتفع من السقي منها إلا أهاليها، فكان المزارعون المجاورون شطوط الماء يحتكرون الري والسقي، ويختلسون من المياه ما هو قريب منهم، ويمنعون الأراضي البعيدة من ذلك، مع كونها لها حق في المشاركة في المياه. فكان ينشأ من هذا ما لا مزيد عليه من عداوة قرية لأخرى، وربما ترتب على ذلك القتال وسفك الدماء». وهكذا وجد الطهطاوي تفسيراً لظاهرة تاريخية طبعت الحياة المصرية، تلك هي قيام السلطة المركزية الموحدة واستمرارها عبر تاريخ وادي النيل الطويل. إن تجنب القتال وسفك الدماء، في مثل هذه البيئة، يقتضي تأسيس تنظيم اجتماعي قوي ومتماسك يضمن استمرار الحياة، ويكون على رأسه حاكم يقوم بتوزيع الماء بالعدل بين الناس. لقد أدرك المصريون القدماء أن وجود هذا التنظيم أمر مهم وحيوي، ينبغي العمل على تأسيسه وصيانته، حتى لو تطلب ذلك أن يتنازل أفراد المجتمع طواعية عن جزء كبير من حرياتهم. ومثل هذه السلطة، تبعاً لظروف ري النهر الفيضي الصعبة، لابد أن تكون أقوى بكثير من تلك التي تتطلبها بيئة تعتمد على وسائل ري من نوع آخر.

والنتيجة أن الطبيعة لم تكن وحدها سيدة الفلاح، وإنما أضافت الحاجة إلى توزيع عادل للري، بين الاثنين سيداً آخر هو الحاكم. وبذلك أصبح الفرعون وحكومته وسيطاً بين الإنسان والبيئة، ووصياً على العلاقة بينهما، وغدت الحكومة همزة الوصل بين الفلاح والنهر. إن الحكومة، فكرة وجهازاً، ضمن هذا المنظور هي أداة التكامل الإيكولوجي بين البيئة والإنسان. ومن خلال الضرورة الحياتية، تشكل المجتمع المصري، متكئاً على ثلاثة عناصر رئيسية شكلت مجتمعة ديناميكية بقائه، وساهمت في تأسيس حضاراته وصنعت تاريخه، تلك هي: الماء والفلاح والحكومة. وخلال خمسة آلاف عام استمرت الحكومة المصرية طرفاً رئيسياً في المعادلة لا يقل أصالة وضرورة عن الطرفين الآخرين، فقد كانت المهامّ الملقاة على عاتق الحاكم في العصور القديمة هي بمقام المهام التي تضطلع بها وزارة الأشغال والري في عصرنا الحاضر، وكانت قاعدة الملك فيها هي ما عبر عنها الطهطاوي «أن العدل أساس العمران».