ليس "مسار أستانا" ورديفه "مسار سوتشي" سوى اختراع روسي للهرب من "مسار جنيف" الأممي، الحافز هو توظيف الوزن الروسي المتزايد في المعادلة بعد الدخول العسكري المباشر في حرب سوريا والتراجع الأميركي المنظم أيام الرئيس باراك أوباما.
والهدف المباشر هو تهميش الدور الطبيعي للأمم المتحدة في إدارة التفاوض بين السوريين نظاماً ومعارضين، والدور المفروض بقوة الحقائق للراعي الأميركي إلى جانب الراعي الروسي لتسهيل التسوية السياسية وضمانها. والجائزة في نظر موسكو هي تجاوز "بيان جنيف" الذي لعب الدور الأساسي فيه وزيرا الخارجية الروسي والأميركي سيرغي لافروف وهيلاري كلينتون والمقلق للنظام السوري، وتركيز كل شيء على القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن.
وحتى تقليص التسوية بموجب القرار الدولي، فإنه لم يؤد إلى نجاح موسكو في إقناع دمشق بالتطبيق. حتى اللجنة الدستورية التي تقوم بمهمة عبثية، فإن موسكو رفضت عقد اجتماعها في جنيف عقاباً لسويسرا ولموقفها في حرب أوكرانيا. ولم يكن الإطار في "مسار أستانا" سوى ما سمي "خفض التوتر" في مناطق شمال سوريا برعاية ثلاث دول "ضامنة" تختلف مواقعها ومواقفها في حرب سوريا: روسيا وإيران تدعمان النظام لأهداف مختلفة، وتركيا الأطلسية المعادية للنظام والداعمة للإخوان المسلمين ثم "جبهة النصرة" و"داعش" وبقية المعارضين.
قمة طهران هي السابعة في السلسلة، لكن ظروف روسيا تبدلت في اللقاء بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس رجب طيب أردوغان والرئيس إبراهيم رئيسي. بعد الدخول العسكري في حرب سوريا ازداد دور روسيا قوة، صار بوتين قادراً على دفع إيران إلى الانكفاء نحو الشمال والشرق لمسافة مريحة لإسرائيل في الجنوب السوري، وحتى على إبداء المرونة لعقد صفقة مع أميركا لإخراج القوات الإيرانية المباشرة والميليشيات المرتبطة بها من سوريا. وصار يستطيع فرض إرادته على تركيا ومعاقبتها بعد أن أسقطت طائرة روسية، قبل أن يرضخ أردوغان ويعمل على تحسين العلاقات مع موسكو وشراء صواريخ "أس 400" الروسية على الرغم من الغضب الأميركي والأطلسي عليه.
بعد الحرب الأوكرانية ضعف الموقف الروسي، وصار بوتين في حاجة إلى إرضاء طهران وأنقرة، فهو سلم بازدياد نفوذ إيران في سوريا، واستنكر الغارات الإسرائيلية على القوات الإيرانية هناك بعد أن كانت إسرائيل تبلغ الروس بالغارات وتصمت موسكو. لا بل بدا بسبب عدائه لأميركا كأنه تخلى عن دعم الكرد الذين تدعمهم قوات أميركية شرق سوريا عبر الإشارة إلى محاربة كل أشكال "الإرهاب"، وتفهم المخاوف الأمنية لتركيا من أجل إرضاء أردوغان.
وأقصى ما طلبه وكرره المرشد الأعلى علي خامنئي من الرئيس التركي هو التوقف عن شن هجوم عسكري على "قوات سوريا الديمقراطية" التي يتهمها بالإرهاب، لأن "أي هجوم عسكري شمال سوريا سيضر بتركيا وسوريا وكل المنطقة ويفيد الإرهابيين". لكن أردوغان لم يتوقف عن التلويح بعملية عسكرية، ربما ليضمن الوعد الروسي له بإقامة "منطقة آمنة" بعمق ثلاثين كيلومتراً لكن بالوسائل السلمية عبر نشر قوات نظامية سورية على الحدود مع تركيا والتذكير بإمكان العودة إلى "اتفاق أضنة" للعام 1989 الذي يسمح للقوات التركية بالتوغل لمسافة خمسة كيلومترات داخل سوريا بنوع من "المطاردة الساخنة" لمَن تعتبرهم أنقرة "إرهابيين".
وفي النهاية جرى البحث في أمور عدة لا علاقة لها بمسار أستانا، وترتبط بالعلاقات الثنائية بين الدول الثلاث. أما الغائب، فإنه خفض التوتر والتسوية السياسية التي لا بد منها في سوريا لإنهاء الحرب والأزمة التي قادت إليها وإعادة اللاجئين والإعمار. وأما الحاضر الغائب، فإنه قمة جدة التي جمعت الرئيس الأميركي وقادة الخليج ومصر والأردن والعراق. ولا أحد يعرف عدد المسارات التي يمكن أن تخترعها موسكو لخدمة دورها في مكان آخر: أوروبا والعالم بعد حرب أوكرانيا.
التعليقات