هناك علاقة لا يمكن تجاهلها بين تصاعد التوتر السياسي والتصعيد الذي تنتهجه إيران ضد أميركا من جهة وبين تصاعد النشاط والتصعيد الذي تقوم به المليشيات الموالية لإيران وأذرعها في المنطقة، وقد لاحظنا ذلك بوضوح أثناء الزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي (جو بايدن) للسعودية ومشاركته في (قمة جدة) بحضور طاقم من البيت الأبيض. ففي الوقت الذي كان الرئيس (جو بايدن) يوجه التحذيرات إلى إيران من العبث بأمن المنطقة ويهددها بالرد القاسي، مندداً بمساعيها في الملف النووي، وبأن أميركا لن تسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي.. ردت إيران بغضب على تصريحات بايدن واتهمته بافتعال الخلافات بين إيران وجيرانها الخليجيين في المنطقة، ولم تكتف إيران بذلك، بل أوعزت إلى ذراعها في اليمن (الحوثيين) للتصعيد العسكري، وقاموا بخرق الهدنة التي أبرمتها الأمم المتحدة بين الأطراف المتنازعة هناك، كما لو كانت إيران لا ترد فقط على أميركا لزيارة بايدن للمنطقة، ولكن تُحرك الحوثيين لإفشال الهدنة التي تؤيدها السعودية في اليمن!
لكن إيران تدرك أن تحسن مستوى العلاقات مع أميركا مرهون أيضا بتحسن مستوى العلاقات السياسية مع جيرانها الخليجيين، وتحديداً مع السعودية، لذلك فقد سعت طهران بوساطة عراقية للدخول في مفاوضات (أمنية) مع السعودية في 5 جولات من الحوار في بغداد العام الماضي، وأقيمت الجولة الأخيرة في شهر أبريل الماضي، وحضرها مسؤولون في أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، ورئاسة الاستخبارات السعودية، ومؤخراً تبلغت إيران موافقة السعودية على انتقال الحوار الهادف إلى إعادة العلاقات بينهما من المستوى الأمني إلى (السياسي)، كما تسعى (الإمارات) لتعيين سفير لها في طهران، وتسعى (الكويت) لتعيين سفير لها في إيران أيضاً.
إذن إيران تتحرك لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية وبقية دول الخليج، وتعتبر ذلك مكسباً لها في ملف الصراع مع أميركا.. لكن هل ينعكس ذلك إيجابياً على موقف إيران من امتلاكها السلاح النووي، وعلى موقفها من ضبط أذرعها العميلة لها في المنطقة كالحوثيين في اليمن مثلاً؟
فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني قال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية (رفائيل جروسي) لصحيفة (الباييس) الإسبانية منذ يومين: «إن برنامج إيران النووي يتقدم بسرعة، وإن رصد الوكالة ما يجري هناك محدود للغاية.. والخلاصة هي أن على مدى ما يقرب من خمسة أسابيع كان لدي رؤية محدودة للغاية مع برنامج نووي يتقدم بسرعة، لذلك إذا تم التوصل إلى اتفاق فسيكون صعباً للغاية بالنسبة لي أن أعيد بناء الأحجية بوجود كل تلك الفترة من العمى الإجباري».. وكان (جروسي) يشير تحديداً إلى إزالة إيران في شهر يونيو الماضي كل معدات المراقبة وكاميرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتي وضعت بموجب الاتفاق النووي الموقع في 2015 مع القوى العالمية سابقاً.
وقال (جروسي): إن إعادة هذه الأحجية بالأجزاء المفقودة والناقصة بسبب غياب المراقبة من الوكالة ليس مستحيلا.. لكنه سيتطلب مهمة بالغة التعقيد.
وعلى الرغم من أن إيران تنفي نيتها امتلاك (سلاح نووي)، وأنها تستخدم أنشطتها النووية للأغراض السلمية، فإن سلوك إيران المزعزع للأمن في المنطقة يفقدها المصداقية في تلك التصريحات، وتقوم طهران بتصعيد لأنشطة تخصيب اليورانيوم أكثر باستعمال معدات متقدمة في منشأة (فوردو) تحت الأرض، (وتحذر قوى غربية من أن إيران تقترب من التمكن من الإسراع صوب صنع قنبلة نووية)، بحسب ما نشرته وكالات الأنباء بالأمس.
إذن إيران تريد الخروج بصفقة مع الغرب حول ملفها النووي تمكنها مستقبلاً من امتلاك سلاح نووي، وفي الوقت نفسه تخرج من دائرة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قِبل أميركا والغرب.. ولذلك تسعى إيران حالياً للتقرب من السعودية ودول الخليج لإعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ يناير 2016 بعد أن تعرضت السفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد لاعتداءات من مليشيات الحرس الثوري والباسيج آنذاك.
من جهتها أبدت السعودية وبعض دول الخليج رغبتها في إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران، لكن بشروط (أمنية) وسياسية.. بتعبير آخر ضرورة أن تتخلى طهران عن العمل الدبلوماسي الذي تسميه (بعمل الميدان) الذي اخترعه زعيم فيلق القدس السابق (قاسم سليماني)، والذي يعطي الأولوية للمليشيات المسلحة وأذرع إيران في دول المنطقة بتحديد طبيعة العلاقة مع دول وحكومات الخليج العربي بما فيها العراق واليمن!!
ولذلك يرتفع سؤال مهم: هل في حالة عودة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية وبقية دول الخليج، سوف تكف (إيران) عن العبث بأمن واستقرار دول المنطقة؟ هل الحرس الثوري الإيراني سيوقف دعمه العسكري وتسليحه للمليشيات المسلحة الموالية له في العراق واليمن؟.. ويوقف صناعة الخلايا الإرهابية في السعودية والبحرين والكويت والإمارات؟
هذا ما يجب أن توضحه إيران للوفد السعودي في المفاوضات القادمة بين البلدين بعد أن انتقل من (المستوى الأمني) إلى (المستوى السياسي).. لأن الجانب الأمني هو حجر الزاوية في العلاقات الدبلوماسية القادمة بين إيران وجيرانها الخليجيين.. وهل تريد (طهران) علاقة غامضة تتلاعب فيها بأمن دول المنطقة، وتعبث باستقرارها أم تريد حقاً علاقات طبيعية تعود بالازدهار الاقتصادي والمعيشي والرفاهية على الشعب الإيراني؟
التعليقات