("البلاد" الكتاب الجديد للشاعر اللبناني عقل العويط، عن مأساة الانفجار الذي هز بيروت في الرابع من آب 2020)
على رصيف ميناء الرابع من آب ما برح شاعر "البلاد" يسير. يناجي البحر، يلملم الجراح وأصوات الاستغاثة، وزفرات الموت ورائحة الأجساد المحترقة. هنا "البلاد" كتابه، تصورات إيحاءات ورموز، ومعراج في خيالات "عهد قديم". هنا أرميا وأشعيا وأيوب وراحيل وجبل حوريب. مقارنات بين كوارث ما هو "مقدس" منسيً، وفواجع حاضر ما زال يحفر في النفوس ألماً أي ألم. يعرف الشاعر ان ليس هناك من شفيع له غير القصيدة، وأن ما فات قد فات، وأن السماء لن تمطر فضة ولا ذهباً، ولا مطراً يروي، ولا رذاذاً يمسح عن القلب رائحة الدخان، لكنه لا يملك إلا أن يرتكب قصيدة تكتبه قبل أن يكتبها، عله يشهد بها ولادة "بلاد" جديدة. يصعب القبض على معاني نصوصه ورؤياه. أتريث وأتهيب وأنا أبحث عن الزهر بين الشوك والعوسج، ورويدا رويداُ تنبت براعم ورقة هنا وورقة هناك. أخلع نعلي لأدخل محرابه، كما فعل موسى أمام الوادي "المقدس"، ثم أترك "العهد القديم" وألجأ إلى الشاعر الحاضر بيننا. أريد أن أسبر أغوار ذاته، وأتحسس همس جفونه. أسمعه يقول:" تابوت لمقبرة ومقبرة لتابوت. هي البلاد تراني وأراها متناثرة".
لن أرحل في صفحات "العهد القديم ". وجعك أيها الشاعر يكفيني، ويكفيني ألمك وصراخك وعويلك. رامة الميناء أقسى من رامة أرميا، وبكاء الرابع من آب أشد إيلاماً من بكاء راحيل. هي ليست المرة الأولى أيها الشاعر، ليست المرة الأولى. منذ إنشائه وميناء بيروت وجع لبنان، جرحه الذي يأبى أن يندمل. من أرصفته المبللة بالدمع الهتون كانت السفن الضخمة تمخر عباب بحر الظلمات نحو الموانئ القصية في البلاد القصية، حاملة في بطونها فقراء ومغامرين، شاءت الظروف أن يرحلوا عن بلاد نذرتها الأقدار للفقر والجوع والحروب، حتى جاء الرابع من آب ليضيف فصلا جديداً إلى ملحمة الوجع اللبناني، وتحوله إلى فاجعة، وها أنت من حيث تريد أو لا تريد، ومن حيث تدري أو لا تدري، تؤرخها بثلاثية مسنًنة تنكأ الجراح.
علمتني حقيقة لبنان أن لا أتحسر بعد الآن ولا أندم، ولا ألطم وجهي ولا أصب اللعنات على طغاة تحرسهم أسنًة العبيد وأسلحة الآلهة. الطغاة لا يخرجون من الماء، لا يهبطون من السماء، ولا يأتون على بساط الريح. العبيد هم السادة. هم يخلقون الطاغية والآلهة، ويرصفون لنا الأرض على طريق الجلجلة. ما عدت أحتمل أصواتهم التي صار وقعها على أذنيً كطنين الذباب. هكذا تصير القلوب حين يسقط الوطن في الوحل، ويتمرغ وجه القمر بنيتيرات اليورانيوم. لن أصل إلى مرقاتك أيها الشاعر، ولو صفعتني بألف رؤية. أياً تكن الحال، سأجمع قواي وأدخل محرابك لأنه رامة بيروت. رامة أرميا لا تعنيني، ولا أعرف بداية لها ولا نهاية. تقول الكتب إنها كانت إلى الشمال من أورشليم، ومتى يقول في إنجيله إنها كانت إلى الجنوب من بيت لحم. ما هم، لن أبحر في صحائف ما كان، سألوذ إلى أوراقك، أجرف منها حطبة النار المقدسة، وأرميها في خراب الميناء علها تنبت إكليلا يرصًع وجه لبنان. لقد بكى البحر حين بكت بيروت. اخضلت عيونه بالدمع الهتون. لكن في بلاد العبيد لا يبقى لنا غير الحلم، وأن يأتي يوم تضرب الأمواج حجارة الشاطئ، محملة بأزاهير العصور. لكن لا أخفي عليك أنني بدأت أشك في كل شيء حتى في الطريق إلى السماء. يوم كنت صغيراً كنت أسمع امي تناجي ذاتها وتقول "يوم منيتي يوم راحتي". أخذ الميناء كبير أبنائها إلى البرازيل، وعاشت في وطنها غربة من دون أن تغترب. وفي كتابه "اسمع يا رضا"، يكتب الراحل أنيس فريحة عن أخ له هاجر وتاجر ومات في البرازيل، وفي الكتاب رسم رمزي لأم تردد: "ربيتِ بقلبي حسرة يا برازيل". هذا قدرنا مع هذا الميناء أيها الشاعر. هو الميناء ذاته يحملك الآن على الكتابة عن أبناء من "بلادك" لم يركبوا البحر ليلاقوا حتفهم في المهاجر. ماتوا في أرضهم بالمجان، ومن دون أن تكون في حوزتهم بطاقات السفر! ماتوا في الميناء ذاته وعلى جنباته، وعلى الشرفات المطرزة بالزهور، المروية بماء الصبر وعرق الجبين. عجائز وآباء وأمهات، وأطفال تكسرت أسنانهم ومفاصل لعبهم. وفي هذا الجو المملوء جهاداً، سيبقى العريس ينادي عروسه: "ارجعي ارجعي يا شولميت. إرجعي ارجعي فننظر إليك". لكن شولميت التي لوحت الشمس وجهها لن ترجع. أؤكد لك أنها لن ترجع، والرابع من آب في بلاد العبيد لن يكون خاتمة الأحزان، والغراب سيواصل نعيقه، هنا على الميناء، وفي أودية لبنان وجباله، وقراه وصروده، وسهوله وسهوبه، وسوف يعلو نعيقه على كل صوت صارخ في البريًة.
كيف يكون ضوء في النفق والغراب في الداخل؟ أليست هي بلاد العبيد الذين يصنعون الطغاة والآلهة؟ من ثمً ألست انت من كتب:" اكتب يا أرميا يا أيوب: لأمرئ أن يسهر في تابوته على البلاد. لأمرئ أن يسهر على مقبرة إذا كانت مقبرة البلاد. اكتب اكتب ليُجمع ما تكتبه في كتاب. هذه بلاد يمعن القاتل في فتح عينيه ليرى بعينيه مقتل البلاد. هذه بلاد يمعن القاتل في احتساء الدم تلمظاً بمشهد قتل البلاد. ما منفد لهابيل، ولا للنسيم، ولا لعبور هتاف في فضاء البلاد".
ستخوننا البلاد، ونبقى وحدنا في "البلاد". لن تنفعنا التعاويذ ولا ضروب الشفاعات، ولا نبوءات أشعيا وارميا، فما كتب قد كتب، الخوف مما لم يُكتب بعد! من نبوءات ومزامير لم يحققها "الرب" بعد. وما أدراك وأدراني بما تعنيه تلك الأصداء القديمة "صوت الرب يزلزل برية قادش. الرب مكسر الأرز، ويكسر الرب أرز لبنان". لم يفعلها "الرب" بعد. أقسم لك وأؤكد أنه لن يفعلها، ممثلوه وعبيده على الأرض يقومون بالواجب خير قيام ويعفونه من المهمة! خوفي على بيروت منهم، على صخرتها الدهرية، على ما بقي في لبنان من أرزات عاصيات، على تلك القلعة الشامخة، على العاصي أن يجف ماؤه، على فم الميذاب وهضاب صنين وحرمون، وخوفي أن يمر عهد وينسى الناس صوتها، تلك "الفيروزة الرسولة" التي علمتنا كيف نحب لبنان بجنونه، بشماله وجنوبه، بفقره وعزه، وكيف تصبح الدنيا من دونه كذبة، ويصبح تاج الأرض تراب.
الرابع من آب جعلك تكتب: "ليس للبنان أهل. ليس لك أهل إلا غيومك والظلال. ما أصعب مروقِك يا بيروت يا رامَة لبنان" أما "البلاد" بلادك، فهي ما سوف تبقى لك على هذه الأرض. لك ولي أن نرتضيها على أي حال، مهما ألمًت بنا وبها والنائبات، ومهما اشتد نعيق الغراب وكثر عدد العبيد. محظوظ أنت بين الناس، محظوظ أن تكون القصيدة شفيعك، نورك في الديجور، سلاحك وصلاتك وابتهالاتك وسلواك. غيرك وأنا منهم، ليست لهم هذه الحظوظ، مهاجرون لفظتهم البواخر على أرصفة الآخرين، وآثروا أن يضلوا الطريق. ما هم، هوذا قدرنا جميعاً، مقيمين ومغتربين، خطانا التي كتبناها وكُتبت علينا. ومن كُتبت عليه خطى مشاها!