في عهد الرئيس الفلبيني السابق المثير للجدل «رودريغو دوتيرتي»، الذي انتهت فترته الرئاسية في يونيو الماضي، حدث تغيير جذري في المشهد العام في العديد من المدن الفلبينية الكبرى، بسبب ازدهار صناعة المقامرة التي اختص الصينيون بإدارتها من خلال شبكات غامضة.

فعلى الرغم من معارضة دوتيرتي لهذا النشاط مبدئيا، وعلى الرغم من حملاته المعروفة ضد أنشطة المافيات والعصابات الإجرامية، إلا أن عوامل اقتصادية ربما كانت وراء غضه الطرف عن هذا النشاط المعروف في الفلبين باسم «بوغو POGO»، وهو ما سمح بانتشاره كثيرا، قبل أن يزداد إنتشاره ويزدهر بصورة أوسع حينما فرض دوتيرتي على الفلبينيين واحدة من أطول عمليات الإغلاق وأكثرها صرامة بهدف التصدي لجائحة كورونا. فعلى إثر ذلك القرار، لم تجمد الكازينوهات الصينية أنشطتها، وإنما انتقلت إلى العمل عبر شبكات الإنترنت. وكان من نتائج ذلك أنْ تضاعفت إيراداتها فوصلت إلى أكثر من أربع مليارات دولار. وبطبيعة الحال، حدث على هامش هذه التطورات انتعاش معتبر في قطاعات اقتصادية معينة مثل قطاعات السياحة والعقارات والأسواق الإستهلاكية والتوظيف، كما استفادت خزينة الدولة الفلبينية مئات الملايين من الدولارات في صورة ضرائب ورسوم ترخيص (جمعت الحكومة مثلا في عام 2020 وحده نحو 7.2 مليار بيزو أو ما يعادل 122 مليون دولار أمريكي من عائدلت الضرائب، عدا عن رسوم الترخيص التي أضافت إلى الخزينة العامة عشرات الملايين الأخرى من الدولارات). ويعتقد أن العائد على الاقتصاد المحلي من أنشطة هذه الشركات الصينية أكبر بكثير إذا ما أخذنا في الحسبان انفاقاتها الجانبية في السوق المحلي للحصول على بعض الخدمات والسلع.

ويبدو أن الرئيس الفلبيني الجديد «بونغ بونغ ماركوس» عازم اليوم على التخلص من هذا الوباء بقمع الكازينوهات الصينية ووضع حد لأنشطتها المشبوهة، دونما اكتراث بالتبعات والخسائر الاقتصادية، خصوصا بعدما ارتفعت أصوات تزعم بوجود صلات بين هذه الكازينوهات وشبكات الجريمة المنظمة الصينية، وهو ما حدا بالسلطات المعنية إلى التقصي لتكتشف وقوع جرائم قتل وخطف وغيرها ارتكبها مواطنون صينيون ضد مواطنين صينيين على الأرض الفلبينية. وعليه أطلقت الحكومة حملتها الهادفة إلى إغلاق عمليات نحو 175 من مشغلي المقامرة الصينيين في الفلبين، وبالتالي ترحيل ما يصل إلى 40 ألف مواطن صيني يعملون في هذه الصناعة، بحجج مختلفة مثل انتهاء الترخيص أو التخلف عن تجديده أو عدم الانتظام في دفع المستحقات الضريبية أو استخدام الأساليب الملتوية للتهرب الضريبي، وغيرها. بل قد تلجأ حكومة ماركوس، إنْ لم تكن قد لجأت بالفعل، إلى تبرير حملتها بالقلق على الأمن القومي للبلاد، خصوصا وأن العديد من الـPOGO تتركز حول أو بالقرب من مواقع أمنية حساسة مثل مقار الشرطة الوطنية ووزارة الدفاع الوطني والقوات الجوية والقوات البحرية.

ولا يتوقع أن تكون لإجراءات مانيلا الجديدة هذه، حيال شركات المقامرة الصينية العاملة في المدن الفلبينية الكبرى، أي انعكاسات سلبية على العلاقات الثنائية الوطيدة بين مانيلا وبكين، ذلك أن بكين أعربت من خلال سفارتها بمانيلا أنها تؤيد خطوات الحكومة الفلبينية لأن الحكومة الصينية نفسها «تعارض بشدة أنشطة المقامرة وتتخذ إجراءات صارمة لمكافحتها». والمعروف أن بكين تعارض بالفعل أنشطة القمار، لكن فقط داخل أراضي البر الصيني، وليس خارجها بدليل أن اقتصاد «مكاو» الخاضع لسيادتها يعتمد كليا على هذه الأنشطة.

لكن في مقابل عدم تأثر العلاقات الصينية ــ الفلبينية بإجراءات حكومة ماركوس، يتوقع أن يؤدي تصفية أعمال الـ POGO وخروجها من البلاد إلى انتكاسات كبيرة في سوق العقار الفلبيني الذي ظل على مدى السنوات الماضية مستفيدا من انفاقات عشرات الآلاف من الصينيين على المساكن والشقق والمكاتب المتنوعة، وربما انتكاسة أكبر في قطاع السياحة، دعك من الأضرار التي ستلحق بعدد لا يحصى من المسؤولين المحليين وموظفي إنفاذ القانون الذين اعتادوا على تقديم خدمات لهؤلاء الصينيين في مواقعهم المختلفة مقابل حصولهم على رشاوي واكراميات.

والحقيقة أن الرئيس الفلبيني الجديد، بإجراءاته هذه، يخالف ما فعله والده الديكتاتور الراحل فرديناند ماركوس، الذي شجع هذه الأنشطة وفتح أبواب الفلبين لها أثناء فترة الأحكام العرفية في سبعينات القرن العشرين ضمن خططه لجذب السياح والأثرياء ومنافسة سنغافورة ومكاو، وإذا ما نجح، ولم يتراجع تحت ضغط اضطرابات داخلية محتملة، فإنه سيضع حدا لتاريخ طويل من هذه الأنشطة والممارسات يعود إلى القرن السادس عشر، حينما أدخلها الصينيون إلى الأرخبيل الفلبيني لأول مرة في صور بدائية مختلفة، قبل أن تتطور وتأخذ شكلا مؤسسيا في ظل الحكم الإستعماري الأسباني، وصولا إلى تحولها في القرن التاسع عشر إلى ظاهرة وطنية، خصوصا صورتها المتمثلة في «مصارعة الديوك».