في زحام الحياة اعذُرنا إن كنّا قد نسيناك. أمَا وقد غيّبك الموت يوم الأربعاء المنصرم، ووُورَيت الثرى، من أسف مشيّعاً من قلة نادرة باقية من إخوان الصفا وخلاّن الوفا، بينما كنت شاغل الدنيا سيد قومك في زمن مضى، فمن حقك علينا، عليّ بالذات، أنا من سلاَك قسراً في غياب الاغتراب، أن نستعيدك كما لو أني أراك للمرة الأولى في نهايات سنة 1974 والأعوام ما انصرمت، ووجهُك الصغير بدرٌ منير يُطل علينا في زنقة الجندي روش ذات صباح.
نحتاج إلى التاريخ، إلى عُصارة الذاكرة، وهي ليست تهويماً ولا كذبا وأضاليل تنسُجها نفوسٌ مريضة لسدّ نقص لا يُعوّض فيها فتُحدث في رداء الحقيقة ثقوبا كي تنفخ في قِربة الفراغ، وما تاريخ الاتحاد بقواته الشعبية والاشتراكي قربةٌ ولا منطادٌ يسبح في الهواء، إنه سيرةُ رجال ونساء، قادةٍ وجنود مجهولين بالآلاف، بأسماء من ذهب ومناقبَ من شرف وغضب ولهب، وبشيَم الأمازيغ والعرب لا سقط متاع من يبيع وجهه وعرضه ولا يشبع من طول سغب.
عمّي حسن، من هذه الصفوة وشعلة الجذوة، لا أذكر من لقّبه(عمّي) وهو الذي عاش حياته كلّها بلا سِن محدد، بدون تجاعيد في الوجه ولا أخاديد حقد وضغينة في النفس، اللهم إلا من نصَب. ذات صباح ونحن أقل من عدد أصابع اليد( مصطفى القرشاوي، عبد الله بوهلال، عبد الجليل باحدو، وعبد ربه) في طور إطلاق جريدة(المحرر) وصل عمر بن جلون، المدير، وبرفقته الرجل الأسمر ضئيلُ القامة، كثيفُ الشعر، دقيقُ الأنف تحته شاربٌ خفيف، ضيّقُ العينين، واسعُ الجبهة، رفيعُ أصابع اليدين، وفيهما كان سرَّه كلَّه. جاء وصوله إلى زنقة الجندي روش حيث مطابع دار النشر المغربية ومقر مكاتب الجريدة القادمة، ومن قبل كانت تصدر» المحرر الأسبوعي» و» فلسطين»، في قلب عاصفة ركيكة مفتعلة، بحنكته وصرامته عرف الشهيد كيف يهدّئها ويعيد الوافد إلى مركب كان أحد ربابنته، في جريدة التحرير لسان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وأخلص لهذا الحزب ولقي من وراء هذا عنتا إذ طرد من وظيفته في وزارة العدل وتعرض للبطالة وضنك العيش محتفظاً بصفاء نفسه بعيداً عن صراع الأجنحة واحتراب الأشخاص له صداقاتٌ كريمة وأحضانٌ دافئة وبنُكران ذات إلى حد الفناء، وبالطبع، حرفية مكتسبة لصنايعية زمان، أنامله خلقت ل» رصاص» المطبعة» وهو غوتنبرغ وقته.
نحن الذين انطلقت « المحرر» بأقلامنا الهشّة تحت توجيه ورعاية دائمة لعمر بن جلون، ومصطفى القرشاوي، ومحمد عابد الجابري من خلف حجاب، عمِلنا في حيّز ضيق جدا معتم بلا مكاتب، نكتب فوق طاولات كيفما اتفق ونحرّر كل المواضيع، إنما بوعي وانتباه، وبدون أجور تُذكر. حيِّزُنا مقتطعٌ عُنوة من بناية دار النشر، من المطبعة، المطابع، هي في الركن الخلفي العميق بعد الممر الطويل على اليسار، هنا العمال والربابنة الحقيقيون: الشيخي والجواهري وحسن أكيبي، وبالطبع المايسترو عمر الجابري.. صلة الوصل الأولى مع هذا الطاقم عبد الله بوهلال الخارج تواً من السجن(السياسي، دائما) وجاء عمّي حسن، لولاه لما عُزفت السمفونية الباهرة ل» المحرر» تُمسك أنامله بالحروف وتصنع من الرصاص الذهب.
.. ومُنِعت «المحرر» ودارت الأيام، ذهب عمل» اللينو» وعوّض التصوير حروف الرصاص. ومثلما تفرقت السبل بآخرين غادر عمي حسن، الحقيقة أنه عاد إلى زمنه الشخصي ووحده يعرفه ويغشاه حين يشاء، كثيرون ظنوا أنهم عرفوه وهو لم يأنس إلا إلى وحدته، يعيش في ماضيه يسدّ به ثغرات وعيوب حاضر يأنفه وهو فيه وليس منه، تملأ عينيه وجوه كبار عاش معهم وعمل إلى جانبهم وأحبوه ومعهم تمثل أشكال النضال والحياة مترع بالوطنية وممتلئ حتى النخاع بتاريخ البلاد، حكاما وأقواما وسلالات وتقاليد، ثقافته عميقة الجذور، بأصول وفروع، توفرت لبيضاويين قلة من العصاميين، على الجامعة أن تتعلم منهم لا أن تمنحهم شهادات سرعان ما تبور، لذلك كان خزانا من المعلومات ومنجم أسرار، وذكاؤه وقاّد مع فطرة لا تبلى، لا يحتاج إلى المصطلحات واللغة الصّمّاء ولا الوجه المنقبض لمناضلي ذلك الزمان كي يُسمع ويُقنع، يكفيه بذلاقة اللسان أن يتكلم لينصت من حوله ويشدّ إليه الأنظار، ثم حين ينفضّ الجمع يأوي إلى بيت قعيدته لكاع، تجمعت المرارات في النفس، وحزنه في القلب لا يُذاع.
أمس مات عمي حسن، لذلك لن أذهب إلى حيّ المعاريف. هناك كنت أجد أحمد الجوماري شاعر الثورة الموؤودة، ومحمد زفزاف القاص المعلم مغربا ومشرقا عاش كريماً سيّد نفسه ولم يفز بأي جائزة أدبية تُمنح اليوم لضعاف الهمم والمواهب؛ ولا إدريس الخوري رحل جسده إلى الرباط تاركاً نصفا منه وروحه في مقهى لابريس. لن أعثر على أثر لأحمد صبري ينحت قصيدة نثر يلقح فيها خوخة بضربات الجزاء، وإن طفت بين درب الكبّاص في لمدينة لقديمة وشارع علال بن عبد الله لن أرى طيف أحمد المجاطي يراود القصيدة في ثمالة كأس البارحة؛ سأعوج أخيرا على مرس السلطان علّي ألتقي بآخر من يستحق التسمية من رجال الدار البيضاء، هيهات، لا أحد، لا أحد؛ قلت لن أيأس، هناك أمل، أجابني النادل في أطلال براسري مدام غيران. إذا عجلت خاطبني النادل، ستلتحق به في درب الحبوس، هناك وُلد وهناك آخر ملاذ. وصلت فوجدت متاجر باعة الفضة والسجاد مغلقة، والزنيقات فارغة كأنها في جو حِداد، وطرقت آخر باب فجاوبني صدى الغياب، صار له صوت وكلام: وصلتَ متأخراً، حسن بن عمر العلوي الدّفلي الآن في مقبرة الرحمة ينام، ياه، كيف لم يعثروا لمثله على حفرة في مقبرة الشهداء، المهم، قد استراح أخيرا من تعب الأيام ومن بؤس وشُح ّوسماجة الأنام. مات وفاز بجائزة الإخلاص لنفسه، خير له وأشرف من تلك التي لم تستح أي لجنة من لجان وزارة الاتصال ففكرت ولو سهوا أن تمنحها لقيدوم الصحافة المغربية وتنقذ ماء وجهها من العار.
…وأنا، بعده، وغياب كل هؤلاء الأحباب، أين أذهب، ولا طريق بعد، لا رفيق؟ « بمَ التعلل لا أهل ولا وطن ولا سكن/ أريد من زمني ذا أن يبلغني ما لم يبلغه من نفسه الزمن»؟ رأيت عن بُعد أيدٍ تلوّح لوجوه بيضاء خلتني أعرفها وهي تضطرب فوق موج لجب بمجاديف من تراب وواحد ينشد مقطعا لإليوت من قصيده « الأرض الخراب» وصوت يدعوني إليه، تعال، ماذا وقوفك والفتيان قد ساروا، تعال، هذه الرحلة الأخيرة وعندنا مقعد شاغر فلا تتردد، الأفق مسدود وقرص الشمس غرب؛ إنه زمن موحش وخير لك أن ترحل أو ستبقى وحيدا وتندم!