يبذل القادة الأوروبيون وسعهم للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية التي تمر فيها دولهم رغم أن عديدا من الدراسات والمقالات تؤشر عكس ذلك. ومفردة "الأوروبيون" لأغراض هذا المقال تعني الدول الأوروبية التي تقدم، مع الولايات المتحدة، كل أشكال الدعم لأوكرانيا في حربها المستعرة مع روسيا.

فإن عرج هؤلاء القادة الأوروبيون على أزماتهم المالية فلن يكون ذلك إلا باستحياء، أو بإلقاء اللوم على الآخرين، وفي هذه الحالة ليس أمامهم إلا هدفان، الأول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والثاني أسعار النفط. ويبدو أنهم قد نجحوا إلى حد ما في الوقوف على ما يرونه أنه المسبب للأزمة الاقتصادية التي تمر بها أوطانهم، بيد أن الناس والإعلام والدراسات الاقتصادية بصورة عامة لم تعد في وارد اجترار سردية اللوم كالسابق، إن كانت على روسيا أو على الدول الرئيسة المنتجة للنفط.

وهذا الأمر بالذات لم تعد تستسيغه الصحافة والإعلام ومعهما الأروقة الأكاديمية التي، ومنذ ثلاثة أشهر ونيف، لم تنفك عن مطالبة الساسة الأوروبيين بوضع اليد على مكان الجرح والبوح بالحقيقة كما هي.

في أواخر آب (أغسطس) الماضي وفي مقال مطول مدعوم بأدلة قطعية، شرحت مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية أن الدول الأوروبية مقبلة على أزمة شديدة، وآثارها صارت شاخصة للعيان باجتماع عدوين لدودين للنمو الاقتصادي وهما الركود والتضخم في آن واحد.

وحذرت المجلة الشهيرة والرصينة والنخبوية والمقروءة على نطاق واسع في عناوين رئيسة أن صدمة التضخم خطيرة، لأنها تتزامن مع مؤشرات قوية على مقدم فترة كساد اقتصادي. وعقب مقال "ذي إيكونوميست" سلسلة مقالات في أمهات الصحف والمجلات الغربية محذرة من أن المقبل من الأيام لا يبشر بالخير وأن العسر قد يكون من المشقة في مكان ويصعب تحمله.

ففي دراسة لمعهد بروكنجز، قدمها خمسة من أشهر الاقتصاديين العاملين فيه، هناك تأكيد على شدة الصدمات التي يتعرض لها اقتصاد هذه الدول، وأنها من القوة قد لا تتمكن من درء أخطارها، ولا سيما عندما التضخم والركود يضربان معا في منطقة بالكاد تملصت من براثن جائحة مخيفة وإذا بها تقع في براثن حرب مدمرة. وجاء المقال ولم يمض شهر على تحذير "الإيكونوميست" من أن الأسوأ لم يأت بعد. وذهبت تحاليل أخرى بعيدا متوقعة أزمنة صعبة وانهيارات في مضامير اقتصادية ومالية محددة.

وقبل نحو شهرين، نشرت وكالة "رويترز" دراسة لبيرو سنغاري، محلل أسواق المعادن والعملات في كابيتول.كوم، تحت عنوان "هل سينهار اليورو؟" محذرا من احتمالية سقوط العملة الأوروبية المشتركة.

ودراسة سنغاري فيها من الموضوعية والنزاهة ما صار أشبه بعملة نادرة في الصحافة الغربية. يقدم سنغاري تحليلا معمقا للمشكلات التي تعانيها أوروبا، وبين الأسطر وكأنه يتهكم على الساسة الأوروبيين الذين يرمون مشكلاتهم على الآخرين، حيث يبرهن أن انحدار الأسواق والعملة الأوروبية كان شاخصا للعيان منذ 2003 وأنه قد يكون من العسر في مكان إيجاد حلول وذلك لوجود خلل في هيكلية الاقتصاد ذاته.

أما "بوليتيكو"، وهي صحيفة أمريكية ـ ألمانية، كتبت في نهاية سبتمبر الماضي أن الكساد سيضرب أوروبا لا محال، المطلوب الآن محاولة تقدير مدى المضار التي سيلحقها.

وفي سبتمبر أيضا، كتبت وكالة المال والاقتصاد "بلومبيرج" أنه على الأوروبيين الاعتراف أن أسلوب حياتهم لم يعد "حلوا" كما كان أو كما يريدونه. وأردفت، "إن القارة تواجه حقيقة مؤلمة" في القيمة الشرائية للدخول مع ازدياد المعاناة من التضخم والركود.

وكانت جريدة "ذي جاردين" البريطانية الواسعة الانتشار ربما أكثر صراحة وحدة عندما دعت في مقال في الأسبوع الماضي الحكومة البريطانية إلى تجميع الشجاعة وكشف النقاب عن "الحقيقة"، رغم المرارة والألم التي ستنتاب الشعب إن عرف أن دولتهم لم تعد إلا صورة مصغرة للحجم الذي كانت عليه قبل عقدين أو ثلاثة. "بريطانيا تتحول إلى دولة خيال، وليس هناك شك أننا في مشكلة، وأننا أصبحنا بلدا يلوك جراحه..."، حسب "ذي جارديان".

هل سيستجيب قادة أوروبا ويصارحون شعبهم بحقيقة أن ما ينتظر دولهم لن يكون حلوا بل قد تشوبه مرارة في المستقبل؟ كلا، لن يفعلوا حتى يرغمهم الواقع المرير على ذلك.