ما رأيك في أن نعيد النظر في المستديرة كإمكانيات إداريّة وتنظيميّة يمكن الاقتداء بها في السياسة والتنمية؟ لا شك في أن لديها جاذبيّة محلّية وعالميّة يجب أن يفكّر فيها ملياً كل نظام سياسي. ما جاء في «السياسة بعين كرويّة»، كان وجهاً واحداً لعملة كرة القدم، اليوم نلقي نظرة على الوجه الآخر. ليس المقصود أن العمود السابق كان: «وعين الرضا عن كل عيب كليلةٌ»، ولا أن هذا العمود من قبيل: «كما أن عين السخط تبدي المساويا».

في لعبة كرة القدم صفات وخصائص، نجد مثيلاتها تماماً في سلوكيات الأنظمة المتعثرة تنموياً، وتبصرها العيون بلا عناء. المشهد العام هو: مهارات حشد الجماهير، بمئات الألوف أو بالملايين، في مسيرات صاخبة بالهتافات، هادرة بالشعارات، طوال ساعات، ما تردّده الحشود فيه عادة صنعة بيانيّة، سجع وأحياناً وزن وقافية.

في تلك الأجواء الملحمية من الحماسة، يبلغ الناس أوج التقمص والذوبان في الآخر، مثلما يحدث في المسرحيات والأفلام، حين يتحقق التحوّل الكامل والانصهار والاندماج، بين الممثل وشخصية الدور الذي يلعبه.

إلى أن ينزل الستار، يقول المثل الفرنسي: «اهبطوا من الغيوم، فقد انتهى الحلم».

عندئذ تفرك الجماهير أعينها، تصحو على الواقع التنموي المتعثر. تعود إلى البنى التحتية المتداعية المهترئة والبطالة، وشحّ الماء وتقطع الكهرباء، وغلاء الغذاء، وصعوبة الحصول على العلاج والدواء. تبدّدت الأحلام الوردية التي رسمتها الخطب الحزبية العصماء. يقول المسكين في نفسه: «أأنا الذي كنت أهتف: بالروح، بالدم، نفديك يا فلان؟» لم يبق غير البحّة. الصرخات والصيحات تشكّل ضغطاً شديداً على الحبال الصوتية، فيحدث لها ما يشبه الانتفاخ، فيصير الصوت أبحّ.

في أثناء المباراة نرى مشهداً مشابهاً. اللعبة المحورية في كلا الملعبين، تتمثل في وجود الخصم المنافس الذي يجب التغلّب عليه. لكن في الملعب السياسي، يسمى العدو، والمؤامرات الخارجية، والطابور الخامس، وفي أحسن الأحوال، المغرّر بهم. في ملعب كرة القدم نرى ساحة معركة بقاموس حرب متكامل: الدفاع والهجوم، والظهير الأيمن، والظهير الأيسر، والتكتيك والاستراتيجية والخطة، والهجمة المرتدّة.. وعندما يفيض الكيل، تنفلت الروح الرياضية وتنقلب إلى هوليجانز، تنتقل المعركة الرمزية الرياضية على خضرة الملعب إلى صدامات حقيقية في المدرّجات أو خارجها.

المشهدان متطابقان في البلدان المتعثرة تنموياً، فحين تطير النشوة، وتأتي الصحوة، تنكشف ألف كبوة في الاقتصاد، وسوق العمل، والتعليم والصحة، والإنتاج الصناعي والزراعي وغيرها.
لزوم ما يلزم: النتيجة المذاقية: لا طعم لكرة القدم إذا كانت بقية ميادين البلد مجموعة أصفار في التنمية.