في كل حديث عن التنمية والبناء في بلدان العالم، أذهب باتجاه رفوف مكتبتي لأبحث عن مذكرات باني سنغافورة الحديثة "لي كوان" والكتاب بعنوان "من العالم الثالث إلى العالم الأول".. يعرف جميع القراء الأعزاء أن سنغافورة لا تزال على قائمة الدول الأكثر تطوراً ونهضة اقتصادياً،

وكانت هذه الجزيرة الصغيرة قبل ما يقارب الستين عاماً مجرد مستنقع للبعوض، في ذلك الوقت وقف "لي كوان" وسط قبّة البرلمان السنغافوري ليعلن أنهم لا يستطيعون تسديد الرواتب لموظفي الدولة، ثم يُخرج ملفًّاً يضمّ تصوره لبناء دولة قوية شعارها "بناء مجتمع عادل وليس مجتمع رعاية اجتماعية" .

سيقول البعض؛ يارجل مالك تقلّب بصفحات الكتب ولا تريد أن تلاحق المثير وتلقي الضوء على الحاضر في دولة مؤمنة مثل العراق توقف الحال فيها عند عبقرية النائب مثنى السامرائي الذي تحول من متهم إلى رئيس كتلة يناقش مستقبل العراق بكل أريحية؟. ياسادة، الحاضر في العراق يخبرنا أصحابه أنْ لا مكان لبناء مدن حديثة، وإنما التشجيع على الاستيلاء على الأراضي الزراعية، والتصفيق للمتجاوزين، وبدلاً من أن نبني مدناً عصرية تليق بالمواطن العراقي، أخبرناه أن عليه أن يعيش سعيداً في العشوائيات.

في مذكراته يكتب لي كوان: "كان هاجسي الشخصي يتركز بالدرجة الأولى على إعطاء كل مواطن حصة في الوطن ومستقبله.أردت مجتمعاً يملك كل فرد فيه مسكنه". ويمضي ليروي لنا حكايته مع السكن لكل مواطن فيقول إنه بعد تسلمه للسلطة، عام 1965م، قرر أن يبني بيوتاً ينتقل إليها ذوو الدخل المحدود، لكن هؤلاء رفضوا التخلي عن نهج حياتهم وعيشهم في بيوت بنوها على أرض لا يملكونها، وعندما قررت الدولة نقلهم إلى شقق حديثة تغير نمط حياتهم "إن الغريزة البشرية تدفع الإنسان إلى حب التملك. وبعدما أصبح للناس بيوتاً حديثة صاروا يحرصون عليها وينظمون حياتهم بدقة".

أما عن الفساد فيخبرنا أن الحكومة كان قرارها الأول التركيز على الحيتان الضخمة واللصوص الكبار ويشير إلى أن أهم تغيير فاعل أجراه عند تسلمه السلطة هو التاكيد على مبدأ "من أين لك هذا؟" ولهذا قرر السماح للمحاكم بأن تتعامل بشدة مع البيانات التي تثبت أن المسؤول يعيش حياة تتجاوز حدود إمكانياته المادية، أو أنه يملك عقاراً لا يسمح دخله بشرائه، كدليل دامغ على أنه تقاضى رشوة.

كلّ العالم ينظر اليوم إلى العراق ويشعر بالأسى على بلدٍ كان يراد له أن يلتحق بقطار العصر، فارتدّ بهمّة خطب سياسييه، إلى الوراء، إلى مجرد دولة تضحك على المواطنين بوعود أطلقتها الحكومات منذ 2003 وحتى لحظة كتابة هذه السطور عن مشاريع وهمية في الإسكان والتنمية والصحة والتعليم .