ظهرت مقدمات قرار "حلّ شرطة الاخلاق"، وهو تطور على جانب كبير من الأهمية السياسية، في كلمة الرئيس الإيراني المنتمي الى الجناح المحافظ الراديكالي في النظام إيراهيم رئيسي عبر التلفزة عندما قال إن "أسس الجمهورية والإسلامية لإيران راسخة في الدستور ولكن وسائل تطبيق الدستور يمكن ان تكون مرنة"!. بعدها جاءت إشارة المدعي العام الإيراني محمد جعفر منتظري يوم السبت الفائت عن إجراء البرلمان الإيراني مراجعة للقانون الذي يلزم المرأة بلبس الحجاب أو غطاء للرأس الذي اقر في نيسان (ابريل) 1983 . وقال منتظري إن "البرلمان و السلطة القضائية يعملان على هذه القضية لتحديد ما اذا كان القانون يحتاج الى تعديل"، وأن "شرطة الاخلاق لا علاقة لها بالسلطة القضائية".

كان هذا كافياً لكي يتم الاستنتاج أن النظام تراجع أمام موجة الاحتجاجات العارمة التي هزت البلاد على مدى اكثر من سبعين يوماً وما زالت. وقد جرى الاستنتاج أن النظام قرر حلّ "شرطة الاخلاق" التي قتلت الشابة مهسا اميني في السادس عشر من أيلول (سبتمبر) الماضي، ما أدى الى انفجار الشارع الإيراني في موجة احتجاجات قادتها النساء في معظم البلاد، و عجزت أجهزة النظام عن احتوائها رغم قتلها اكثر من 470 شخصاً بينهم عدد كبير من النساء و القاصرين، إضافة الى اعتقال اكثر من 18000 شخص من مختلف الفئات العمرية والجندرية.

لكن لم يصدر بيان رسمي يعلن صراحة حّل الجهاز الذي معه بدأت "ثورة النساء". ولم يتم حتى الآن تعديل القانون المشار اليه آنفاً، لذلك لا يزال العديد من المراقبين يعتبرون ان التراجع و إن يكن حقيقياً، لكنه قد يكون جزءاً من حملة علاقات عامة وعملية تجميل للوضع، لا سيما في ظل تفاقم الوضع، مع ارتفاع منسوب الغضب العابر للجغرافيا والطبقات الاجتماعية، وفشل النظام في احتواء الحالة الاحتجاجية التي تجاوزت منذ أسابيعها الأولى نطاق قضية المرأة وحقوقها في إيران لتنسحب على قضايا تمس صلب النظام وأسسه. فموجة الاحتجاجات التي كانت ولا تزال ترقى الى "ثورة" سياسية وقيمية تمثل رفضاً واسع النطاق لكل ما يمثله النظام، بما في ذلك استخدامه ورقة الدين والعسكرة المفرطة، فضلاً عن ورقة ما يسمى التهديد الخارجي. هذه النقطة هي التي تقلق نظاماً مثل النظام الإيراني الذي حاول في الأسابيع القليلة الماضية ان يحرف الأنظار نحو المناطق الكردية في ايران، محاولاً ربطها بمؤامرة إسرائيلية -أميركية تستهدف البلاد، وصولاً الى الاعتداء على إقليم كردستان – العراق والتهديد بعملية عسكرية، ومع ذلك ظلت شعلة الثورة و الاحتجاجات متّقدة في العاصمة و كبريات المدن.

ولم تنفع تهديدات قادة "الحرس الثوري" وعلى رأسهم إبراهيم سلامي في إخافة الشارع الثائر، كما ان مواقف المرشد علي خامنئي الأخيرة التي وصف فيها المحتجين بأنهم اما مشاغبون أو عملاء، أججت شعلة الاحتجاجات، وزادت من منسوب استهدافه شخصياً كرمز للنظام لم تعد فئات واسعة من الشعب ترغب في البقاء تحت سلطته.

منذ الأيام الأولى للاحتجاجات اكتشف العالم مذهولاً ديناميكية المجتمع الإيراني بتلاوينه كافة. وقد شكلت المرأة الإيرانية من مختلف الفئات العمرية نموذجاً دفع الرأي العام العالمي الى التضامن معها، وأجبر الحكومات الغربية المتلكئة في الأساس، إلى تبديل خطابها مع النظام الإيراني والتعامل مع الحالة الإيرانية المستجدة على انها محطة مفصلية لا يمكن تجاهلها، او تجاوزها للتعامل مع النظام الإيراني وكأن شيئاً لم يكن.

لكن في ضوء التطور الأخير المتمثل بـ"حلّ شرطة الاخلاق" هل يمكن القول إن طهران ستتمكن من احتواء الازمة الكبيرة التي تواجه النظام في أسسه وطبيعته ؟ يقيننا أن النظام لا يزال قويا، لكن ما حدث ويحدث لغاية اليوم يكشف ان "ثورة المرأة" هزت كيان النظام، وخلخلت البنية الأيديولوجية التي يقوم عليها. فالتذرع بالدين لتشريع العيش في ظل نظام ثيوقراطي، وهو عمليا دكتاتوري امني و عسكري في ان واحد، لم يعد كافياً من أجل اسكات الرأي العام الذي اعتاد النزول الي الشارع ومواجهة الموت. والأهم هنا أن النظام يكتشف أن من يحتلون الساحات و الشوارع ويواجهون الأجهزة وقوى "الباسيج"، يتمتعون بحاضنة شعبية واجتماعية واسعة النطاق، ما أدى الى منع النظام حتى الآن من الذهاب نحو خيار الدم بلا حدود. وموقف هذه الحاضنة هو الذي يرسل بإستمرار رسائل الى رجال الدين والعسكر مفادها أن ثمة تغييراً حقيقياً في الوعي الجماهيري طفا على السطح ويستحيل تجاوزه بعد الآن. و تجاوزه قد يفتح الباب امام مناخ تمرد في الماكينة الأمنية والعسكرية. وهذا في حال حصوله أخطر ما يمكن أن يتهدد بقاء النظام .

هل ينجح النظام في إنهاء الموجة؟ غالب الظن أن شيئاً كبيراً انكسر في العلاقة بين أهل النظام والرأي العام الإيراني. صارت آذان المجتمع الإيراني صماء بوجه ديماغوجية النظام المتخلفة. إنها مسألة وقت لكن الثمن سيكون مزيداً من الدماء و الدموع والآلام!