استراتيجية الأمن القومي الأميركي للعام 2017م، ناقشت فكرة الانعزالية، وهي فكرة متأصلة في السياسة الأميركية منذ جورج واشنطن، وتقوم على أنه يجب جعل أميركا أكثر أمانا وأقل عرضة للتدخلات الخارجية، وعبر التاريخ الأميركي كان هناك انتقاء شديد في الكيفية التي تطبق فيها فلسفة الانعزالية الأميركية، فمثلا في القضية الأفغانية كشفت الرؤى الاستراتيجية الأميركية خطأ فادحا في تفسير هذه الرؤية، وقد حمل الرئيس الأميركي جورج الابن مسؤولية الانقلاب على الانعزالية الأميركية عندما فكر أن يغزو بشكل عسكري أفغانستان الدولة التي كانت بلا أي قوالب سياسية تعطيها حتى صفة الدولة.

اليوم لا تبدو الشكوك مقبولة في أن إدارة الرئيس بوش الابن فشلت في تحقيق أهدافها في أفغانستان، فلا دولة أنشئت ولا تنمية تحققت، وفي ذات التوقيت لم يتم القضاء على طالبان، فقد اختلطت المفاهيم السياسية والتنموية والعسكرية، في وسط ملفات وتفاعلات السياسة الأميركية، وخلال عقدين من الزمان قضتهما أميركا على الأراضي الأفغانية، لم يكن هناك الكثير من التغيرات الجذرية، واتضح أن أميركا أدركت أنه ليس لديها في أفغانستان أكثر من مجموعات من المتعاونين، أفغانستان أرض تحمل في جغرافيتها التحديات العسكرية ولو بقيت أميركا في أفغانستان بصورتها العسكرية لمئة عام قادم، فلن تغير شيئا من واقع هذه الدولة، ما كانت تحتاجه أفغانستان لم تعطه إياها أميركا، هذا هو لب القضية، لذلك لم يغير التواجد الأميركي شيئا من حقائق أفغانستان التاريخية.

أميركا انسحبت من أفغانستان والأسباب كثيرة، ولكن معظم هذه الأسباب موجودة في واشنطن وليس في كابل، فأميركا كانت تدرك في العام 2018م عندما بدأت محادثاتها مع طالبان تمهيدا لانسحابها من أفغانستان أنها أمام تحولات دولية كبرى، فقد كانت أميركا تدرك أن الأزمة الروسية - الأوكرانية قادمة على الطريق، وأن تواجد أميركا في أفغانستان سيكلفها الكثير وخاصة في منطقة أصبحت أقرب للصين منها إلى أميركا، كل ذلك يحدث بجانب انحسار ومحدودية بناء نموذج دولي للسلام في أفغانستان، فخلال عقدين من الزمن قضتهما أميركا في أفغانستان تراجعت الكثير من الدول وخاصة الدول الإسلامية عن فكرة المشاركة في أي مشروع سلام يخص أفغانستان لأن أميركا اختارت المسار الأكثر تحدياً - غزو أفغانستان -.

سيناريوهات المستقبل ليست خيارات إيجابية، وما يجري داخل أميركيا من استجواب وبحث عن إجابة مقنعة للسؤال الذي يقول: لماذا انسحبت أميركا من أفغانستان؟، لن يجد الإجابة المنطقية، ولن يعيد الجيش الأميركي إلى أفغانستان، وسوف تدفع بعض الشخصيات الأميركية المهمة ثمناً مكلفاً عند الإجابة عن ذلك السؤال، تصريحات الرئيس بايدن بشأن نهاية الحرب في أفغانستان في أغسطس 2021م، كما نشرها البيت الأبيض يقول فيها: "بينما نغلق 20 عامًا من الحرب والصراع والألم والتضحية، حان الوقت للتطلع إلى المستقبل، وليس الماضي، إلى مستقبل أكثر أمانًا، إلى مستقبل يكرم أولئك الذين خدموا وكل أولئك الذين قدموا ما أسماه الرئيس لينكولن "آخر قدر كامل من التفاني".

ليس هناك أي أفق سياسي يوحي أن أفغانستان تسير نحو مستقبل أكثر أمانا، هذا هو محتوى السيناريو الأول، بل التصورات المستقبلية أن التواجد الأميركي لعقدين من الزمن كان سببا رئيسا للتحرك من جديد نحو موجات من الإرهاب يعاد تشكيلها لتنتشر من جديد وتنفذ سياستها في مناطق مختلفة من العالم، ومنها بالتأكيد الشرق الأوسط، حيث المعطيات التاريخية الجاهزة للعودة إلى الماضي وبسرعة، الانسحاب الأميركي من أفغانستان بهذه الطريقة فتح المسار أمام إعادة تأهيل محتملة لمنظمات إرهابية ما زالت تنتظر الفرصة.

أسئلة الشعب الأميركي والساسة الأميركان حول حقيقة الأمر في أفغانستان خلال عقدين من الزمن هو السيناريو الثاني الذي بدأت ملامحه الآن مع انتخاب رئيس البرلمان الجديد (كيفن مكارثي) وسوف يكرس فتح الكثير من الملفات الدولية، وخاصة في الشرق الأوسط فتتابع الأسئلة فوق رؤوس الساسة الأميركان لن يتوقف عند القضية الأفغانية، فلم تفشل أميركا في أفغانستان فقط، فقد فشلت في العراق وفي سورية وفي ليبيا واليمن وإيران.

الإرهاب مرشح أن يتجذر من جديد في أفغانستان وفي العالم، وأميركا مطالبة من القوى الدولية الصاعدة أن تتراجع عن مساراتها التي لا تتوقف أمام الحقائق التي يمكن إنجازها والتي يستحيل إنجازها، لقد ذهبت أميركا إلى أفغانستان وهي تعلم الأسباب خلف ذلك، ولكنها في النهاية خرجت وهي تتجاهل الآثار التي تتركها خلفها والمخاطر التي يمكن أن تنتظر العالم، النظام العالمي الجديد يتشكل وبسرعة وهو لن يقبل أخطاء واشنطن لتتكرر بشكلها التاريخي منذ أيام فيتنام وحتى الخروج من أفغانستان.