حلقة التصعيد المفرغةبعد قرابة العام من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي لم يبدو أنها في طريقها لتتطور نحو حرب شاملة قد يتجاوز نطاقُها طرفيها المباشرين، من السهولة بمكان رصد استمرار التصعيد الخطير في هذه الحرب. وقد تفجر الصراع العسكري في فبراير 2022 بعد أن اعتبرت القيادة الروسية أن تهديد الأمن الروسي جراء استمرار توسيع حلف الأطلسي وصولاً إلى أوكرانيا ذات الرمزية الخاصة لروسيا، وصل إلى درجة لا يمكن السكوت عليها، ورد التحالف الغربي بزعامة الولايات المتحدة بدعم لأوكرانيا أخذ في التصاعد حتى نجح في تمكينها من تحقيق إنجازات صحيح أنها جزئية لكنها فتحت البابَ للحديث عن إمكانية الانتصار على روسيا، وهو ما دفع الجانب الروسي بدوره إلى التلويح ولو على نحو غير مباشر بالسلاح النووي والإمعان في ضرب البنية التحتية الأوكرانية، وبالذات في مجالي الطاقة والمواصلات.
وفي الآونة الأخيرة تأكد القرار الغربي بتزويد أوكرانيا بأسلحة أكثر فتكاً، كمدرعات إبرامز الأميركية وليوبارد الألمانية وتشالينجر البريطانية، ناهيك عن الطائرات المقاتلة والصواريخ الأبعد مدى.

ولم يتردد الرئيس بوتين في كلمته بالاحتفال بالذكرى الثمانين لمعركة ستالينجراد، في أن يؤكد أن الرد الروسي على هذه الأسلحة لن يقتصر عليها وحدَها، وهي عبارة تهديدية تنطوي على احتمالات كثيرة قصد بوتين أن تكون غامضةً، سعياً لمزيد من الردع. وهكذا تشير التطوراتُ الأخيرةُ كلها إلى اتجاه حلقة التصعيد المفرغة إلى الاكتمال دون أدنى مؤشر على بوادر تهدئة من أي من طرفي الصراع. بل إن المتابع للتحركات الأميركية سوف يلحظ بسهولة زيادةَ الضغوط على الحلفاء والأصدقاء من أجل الإدلاء بدلوهم في دعم أوكرانيا بالسلاح. وهكذا شهدت الأشهر الأخيرة تطورات بالغة الخطورة تمثلت في عسكرة واضحة لسياسات دول كانت حريصة على تأكيد الطابع السلمي لسياساتها الخارجية، كألمانيا واليابان، بل وتخلي دول عن سياساتها الحيادية، كالسويد وفنلندا.. فما تفسير الإصرار على التصعيد رغم ما يبدو من أن تحقيق النصر ليس بالمسألة السهلة لأي من الجانبين؟
تبدو المسألة واضحة بالنسبة للجانب الروسي، فهو يعتبر الانتصار في هذه المعركة حتمياً لحماية أمنه واسترداد المكانة الروسية التي تضررت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ووصل الأمر إلى التطويق شبه الكامل لروسيا من قِبَل «الناتو»، ولم يتبقَّ في هذا التطويق سوى الحلقة الأوكرانية ذات الرمزية الخاصة لروسيا. وانتهزت روسيا الفرصةَ، كما فعلت في عام 2014 بضم القرم، لتضم هذه المرة الأراضي الأوكرانية التي يقطنها سكان ناطقون بالروسية.

وقد تجبر التطورات موسكو على قبول بعض التنازلات، لكن بالتأكيد لن يكون منها التخلي عن الأراضي التي تم ضمها. وعلى الجانب الغربي من المؤكد أن صانعي القرار الأميركي يدركون استحالةَ هزيمة روسيا، وبالتالي فأغلب الظن أنهم يسعون من هذا التصعيد لتحقيق هدفين، أولهما تحسين وضع أوكرانيا في أي احتمالات قادمة للتسوية، وثانيهما استنزاف القوة الروسية لتحجيمها في سباقات القمة في النظام الدولي. ولا يمنع الأمر من أهداف ثانوية كاختبار فعالية الأسلحة الغربية في مواجهة مثيلتها الروسية أو تجربة أسلحة جديدة.

ولن تنكسر الحلقة المفرغة للتصعيد إلا بإعادة حسابات يقوم بها أحد طرفي الصراع أو كلاهما، وهو احتمال مستبعد، أو بتحول داخلي في أي منهما لا نملك مقومات التنبؤ به، أو بمبادرة من القوى المحايدة لا يوجد أي مؤشر عليها حتى الآن ناهيك عن قدرتها على التأثير.