الفساد بشكل عام هو شكل من أشكال إساءة استخدام السلطة. وكلما عظمت السلطة، زاد أثر الفساد على المجتمع. فمثلاً، عواقب فساد المسؤول الكبير أكبر من فساد الموظف البسيط. وفساد التاجر الكبير أكثر ضرراً من فساد صاحب المهنة البسيطة. وللاستقرار على معنى واضح لما هو الفساد، فسنأخذ بتعاريف هيئات دولية للفساد، فيعرف البنك الدولي الفساد بـ«شكل من أشكال خيانة الأمانة أو الجريمة يرتكبها شخص أو منظمة يعهد إليها بمركز أو سلطة، وذلك من أجل الحصول على مزايا غير مشروعة، أو إساءة استخدام تلك السلطة لمصلحة الفرد».

0 seconds of 0 secondsVolume 0%
ونحن في دول الخليج - وخلال العقود السبعة الأخيرة - تطورت نشأة مجتمعاتنا ودولنا من مجتمعات بسيطة تدار بتوجيهات شيخ القبيلة، إلى مجتمعات شهدت كثافة واتساعاً في التطور السياسي والاقتصادي ما لم تشهده مجتمعات أخرى من قبل. ومع أنه لا يمكن نفي تواجد الفساد من قبل، إلا أنه لم تكن هناك ثروة يتم التنافس عليها، مولدة فرص الإفساد والفساد. فالثروات النفطية التي تراكمت خلال العقود السبعة الأخيرة حولتنا إلى مجتمعات حديثة تطورت على عجلة اقتصادياً وسياسياً. وفي السنوات الأخيرة، شاع التحدّث عن الفساد ليس كمجرد جريمة معزولة تخص أفراداً معينين، وإنما تعداه إلى أثره على التقدم الاقتصادي والسياسي والعلمي. هذا مما دعا «منتدى التنمية الخليجي» إلى أن يجعل موضوع الفساد محور لقائه الحادي والأربعين، الذي عقد في الكويت خلال الفترة 3 - 4 فبراير، والذي قدمت فيه أبحاث حول الفساد في دول الخليج، شملت الفساد السياسي والاقتصادي والأكاديمي. وبالطبع كانت سبل مكافحة الفساد الرابط بين هذه البحوث المقدمة.

ولحسن الحظ، فقد طورت المنظمات الدولية مؤشرات لقياس الفساد، يمكن تطبيقها على كل دولة. ودولة مثل الدنمارك حصلت على أفضل نتيجة في مؤشر مدركات الفساد CPI، حيث حصلت على 87 نقطة. أما أقل دولة ترتيباً في هذا المؤشر، فهي سوريا التي حصلت على 13 نقطة، والذي يذكرنا بعلاقة الفساد الطردية بعدم الاستقرار السياسي. أما بين دول الخليج، فالأفضل هي دولة الإمارات وحصلت على 71 نقطة، تلتها قطر 63، ثم عمان 54، فالسعودية 53، وحصلت كل من البحرين والكويت على 42 نقطة.

وكما ذكرنا، فإن للفساد كلفة تزيد كثيراً على المال المسروق، فقد أثبتت الأبحاث الاقتصادية أن هناك علاقة بين مؤشرات مدركات الفساد لكل دولة وبين نموها الاقتصادي. فوجد مثلاً أن الارتفاع بدرجة في مؤشرات الفساد، فإن ذلك يؤدي إلى ارتفاع %1.7 في الدخل القومي. كما أن أي ارتفاع في المؤشر يؤدي إلى معدل أعلى في الاستثمار الأجنبي. فالمؤشر لدولة الإمارات الذي يبلغ الـ71 ينظر إليه كجاذب للاستثمارات في دولة الإمارات، والـ42 نقطة التي حصلت عليها الكويت لا بد أن تكون منفرة للمستثمر الأجنبي.

ولعل البعض يتساءل: كيف تكون الكويت وهي الدولة الخليجية الأفضل في توافر الحريات السياسية والإعلامية هي نفسها الأدنى في المؤشر الكلي لمدركات الفساد؟ وقد يحاول البعض الربط بين النظام الديموقراطي في الكويت، وانحدارها في مؤشر مدركات الفساد. لكن الحقيقة أن هذا المؤشر يعطي قيمة أو إضافة لتوافر هذه الحريات السياسية والإعلامية، وغيابها سيؤدي إلى تدهور أكثر للكويت في هذا المؤشر. لكن المؤسف أن الكويتيين غير متفائلين بحدوث تغييرات جذرية تعمل على مكافحة الفساد. هذا بالرغم من الرضا الكبير عن نتائج آخر انتخابات لمجلس النواب. فمن بين حوالي مئتين من الكويتيين سألتهم إن كانوا يرون أن هناك جهوداً مخلصة لمحاربة الفساد في الكويت؟ أجاب أكثر من %80 منهم أنهم لا يرون هذه الجهود. وأحد المتابعين اقترح أن أطرح السؤال على ChatGPT.

هذا وعلى الرغم من إنشاء الهيئة العامة لمكافحة الفساد عام 2016، والذي لم يؤثر إنشاؤها منذ ذلك التاريخ في ترتيب الكويت في مؤشرات مكافحة الفساد. وأتساءل أحياناً: هل يشعر المسؤولون في الدولة - بمن في ذلك أعضاء هيئة مكافحة الفساد - بضغوطات نفسية عندما يرون أن ترتيب الكويت في مؤشرات مكافحة الفساد هو الأدنى بين دول الخليج؟ ولعل المواطن الكويتي يتساءل: متى ستدخل الكويت إلى مضمار المنافسة في مكافحة الفساد؟ فالكويتيون ينظرون بغبطة إلى دوال الجوار، خصوصاً السعودية التي حققت نجاحات ملحوظة في محاربة الفساد.

هذا ويرى الدكتور حسن العلوي، في ورقته التي قدمها في «المنتدى»، «أن جهود مكافحة الفساد في دول مجلس التعاون لا تزال في بداياتها. فعلى مدار خمسة عقود، وتحديداً منذ زيادة الإيرادات النفطية في بداية السبعينيات، واستقواء مظاهر الدولة الريعية، تكرّست في المفاصل الرئيسية للاقتصاد والمجتمع والجهاز الحكومي ممارسات إفساد وفساد باتت جزءاً متجذراً في آليات تشغيل هذه المفاصل، ومظهراً من مظاهر الحياة الاعتبارية. ونحن نزعم هنا أن هذه الممارسات لا تزال لم تطلها لا تشريعات ولا جهود مكافحة الفساد، لأن جذورها ضاربة في بنية الاقتصاد والمجتمع والإدارة الحكومية».

ولعل من أهم العقبات التي تواجهها حملة مكافحة الفساد في منطقتنا هي الاختلاف في تحديد الفساد نفسه، فبعض الممارسات الفاسدة يتقبلها المجتمع. ويشير الدكتور أحمد الرميحي، في ورقته التي قدمها في «المنتدى»، إلى أن بعض الباحثين «من يصنف الفساد إلى فساد أبيض، وهو الفساد الذي يرى المجتمع أنه لا يستحق العقاب، وفساد رمادي وهو الفساد الذي يختلف فيه المجتمع على استحقاقه للعقاب من عدمه، وفساد أسود وهو الذي يتفق المجتمع على عقابه». ومن المهم أن نعرف «أن نظرة المجتمع للفساد قد تتغيّر بين فترة وأخرى، كما قد تختلف هذه النظرة للفساد بين مجتمع وآخر في الفترة الزمنية نفسها».

وأود أن أضيف أن انتشار الفساد مؤشر خطير على عدم إيمان المواطنين بمستقبل الدولة، الذي تدهور في الكويت بعد الاحتلال العراقي والتحرير. فتجربة كثير من الكويتيين كلاجئين أضعفت إيمانهم بمستقبل الكويت. وأكثر من صديق يتفق معي على أن الفساد قد زاد في الكويت بعد عام 1991 وعلى جميع المستويات. فازداد تهافت الطبقة الغنية على جمع الثروات، كما ازداد إقبال الطبقات الأخرى على الماديات كمصدر للسعادة. لذا، فإن الفساد قد يكون مصدراً لتحقيق سعادة وهمية نحاول الحصول عليها من تملك السلع الباهظة الثمن. وهي غير السعادة النابعة من المواطنة في مجتمع يقدر العمل ويكافئ الفرد لإنتاجيته وإبداعه.

وفي هذا المجال، يقول المؤرخ الاقتصادي الألماني فيرنر أبلهاوزرAbelshauser Werner: «نحن في ألمانيا نعيش في دولة تدار بكفاءة وعدالة. لذا، فإن رفاهيتنا ليست ناتجة عن تراكم ثرواتنا الشخصية. فسعادتنا لا تعتمد على عدد السيارات والبيوت التي نمتلكها، وإنما على كوننا مواطنين في هذ الدولة الفاعلة والعادلة».

الوضع مقلق في الكويت في مدى جدية الدولة في محاربة الفساد، وهناك شبه إجماع على أنها قادرة إن توافرت الإرادة السياسية.