عن تجربة عيشه في القاهرة التي تلت مغادرته يافا، المدينة التي نشأ فيها، وشهدت ميلاد تجربته الشعرية، وعمل في صحافتها، خاصة في صحيفة «الاتحاد» ومجلة «الجديد»، تحدث محمود درويش ذات مقابلة معه، وكان صيت درويش الذي لم يكن يومها قد بلغ الثلاثين من عمره، قد سبقه إلى الوسط الأدبي في مصر، بصفته بين أبرز من أطلق عليهم حينذاك «شعراء المقاومة».
احتفت مصر بالشاعر الشاب، وعيّن يومها في مؤسسة «الأهرام»، وكان محظوظاً أن جمعه مكتب واحد مع عمالقة في الأدب المصري بينهم نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وحين سأله محاوره عن انطباعه عن شخصيتي الرجلين، وقد بات على هذه الدرجة الكبيرة من القرب منهما، قال إن محفوظ رجل منظم للغاية في برنامجه اليومي ودقيق في مواعيده، يأتي إلى المكتب في الثامنة والنصف كل صباح، ويغادره قبل الواحدة بربع ساعة، وحتى لشربه القهوة مواعيد، فكان ينظر إلى ساعته قبل الردّ بنعم أو لا إذا سأله درويش عما إذا كان سيشاركه القهوة. أما شخصية يوسف إدريس، فهي على خلاف شخصية نجيب محفوظ، تتسم بالفوضى وعدم التقيّد بمواعيد، وبأي انضباط، يعيش حياته كيفما اتفق، دون تلك الجدولة الصارمة التي لدى محفوظ.
وعلى الرغم من هذه الفروق في الشخصيتين، فإن الرجلين كانا عملاقين في الأدب كل بطريقته، ونعلم الغضب الشديد الذي استحوذ على إدريس يوم منحت جائزة «نوبل» للآداب لمحفوظ، فقد كان يرى أنه الأحق بها بين أدباء مصر.
وبعيداً عن الأحقية في «نوبل» وجب القول إن الرجلين، وهما يبدعان، حفرا في الصخر وغرفا من البحر، ولهذا القول حكاية تتصل بالشاعرين الكبيرين المتهاجيين الفرزدق وجرير، حيث كثرت حول ذلك الروايات. وتقول إحداها إن الفرزدق وجرير والأخطل اجتمعوا عند والي الكوفة، بِشر بن مروان، وكان يغري بين الشعراء، فقال للأخطل: احكم بينهما، وتحت إلحاح الوالي قال الأخطل: «الفرزدق ينحت من صخر، وجرير يغرف من بحر».
هناك من رأى أن الغرف من البحر سهل ويسير، مقارنة مع الحفر في الصخر، ما يوحي بأن الفرزدق «أشعر» من جرير، لكننا لا نريد أن نرى وجهاً للمفاضلة هنا، فالغرف من البحر والنحت في الصخر ليسا في تضاد. فالأول يدل على انسياب الشعر وتدفّقه، أما الثاني فيدل على قوة السبك وتماسكه، ومع أن محفوظ وإدريس لم يكونا شاعرين، فإنهما جمعا بين الأمرين.
التعليقات