لم تحرّك الزلازل التي ضربت تركيا وسوريا وهزّت لبنان، أياً من المسؤولين على التحرك للملمة الوضع الداخلي اللبناني وإشعال محركات البحث الرئاسي والحكومي والاستحقاقات، فلا جلسة لمجلس النواب قريباً لانتخاب رئيس باعتباره هيئة ناخبة، إنما يتجه لإقرار "الكابيتال كونترول" والتمديد للمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم.

حدث الزلزال غيّر الأولويات مع الحج اللبناني إلى التطبيع مع النظام السوري بعنوان التضامن الإنساني، وطغى على اجتماع باريس الخماسي الذي جمع ممثلين عن فرنسا والولايات المتحدة والسعودية وقطر ومصر، والذي لم يُصدر بياناً في ختام محادثاته، بما يعني أن الحراك الخارجي حيال لبنان لم يصل إلى مرحلة الاتفاق على حل للأزمة أو الضغط لإنتاج تسوية بين الفرقاء تسمح بإنجاز الاستحقاقات والسير بالإصلاحات المطلوبة.

اقتصر اجتماع باريس على بحث نقاط كان جرى تداولها سابقاً، في ما يتعلق بالملفات اللبنانية، وبدا التوافق عاماً من دون الدخول في تفاصيل الأسماء التي يختلف المشاركون على توصيفها في اللقاء. وهذا يعني أن هناك توافقاً على خطوط عريضة تحتاج إلى بلورة عبر اتصالات ومتابعات مع المسؤولين اللبنانيين لتقريب المواقف، وللتمكن من وضع خطة عمل واضحة سياسياً لمسار التسوية. لذا خرج اللقاء بمبادئ عامة تشكل خريطة طريق للتسوية وليس مشروعاً للحل، فإنجاز الملفات اللبنانية العالقة يحتاج إلى اتفاقات أكبر وبلورة تسويات بين الدول تغطي أي حل نهائي، إن كان بالضغط أو بتمرير صفقات في أكثر من مكان، كما حدث بعد الاتفاق النووي عام 2015.

والاجتماع لن يكون الأخير، وفق ما سُرّب عن المجتمعين، لكن تفعيل الحراك الدولي في ظل الظروف الدولية السائدة واحتمالات التفجير في أكثر من منطقة، سينتظر رد الفعل الإيراني لتُبنى على أساسه توجهاتها للمرحلة المقبلة. وقد كان واضحاً أن الدول المشاركة ليست في صدد تشديد الضغوط لإنجاز تسوية في وقت قريب، ما دام هناك أطراف ليس لديها مصالح مباشرة في الداخل اللبناني كما كانت الأمور في 2015 وحتى قبل ذلك بكثير، حين كانت الاصطفافات السياسية مختلفة، وبما أن لا قدرة داخلياً على تلقف الحراك الدولي واجتراح تسوية ولو بعد أشهر، فإن النزف اللبناني سيبقى مستمراً وصولاً إلى الانهيار الكبير وربما الانفجار، والذي لا يعود معه لبنان دولة موحدة.

المتغير في الأولويات اللبنانية جاء بعد الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، مع التوجه نحو التطبيع مع دمشق، عبر فريق وزاري لبناني ضغط "حزب الله" لإرساله إلى سوريا ولقائه بالرئيس بشار الأسد. الخطوة اللبنانية تُعتبر الأولى في مسار التطبيع مع النظام وعودة العلاقات اللبنانية – السورية من بوابة المساعدات الإنسانية، لكنها في الوقت نفسه تؤكد الاستثمار السياسي لقوى الممانعة بالتوازي مع حملة النظام لرفع عقوبات "قانون قيصر" وإحداث خرق قد يؤدي إلى عودة التأثير السوري مباشرة في مسار الاستحقاقات اللبنانية أو تعزيز نفوذ حلفائه، خصوصاً "حزب الله" بالتنسيق مع إيران.

التطبيع مع دمشق وتعزيز محور الممانعة بقيادة إيران وفرض أمر واقع في لبنان، هو عنوان المرحلة المقبلة، بصرف النظر عن الاعتبارات السورية الأخرى وعلاقات النظام المتجددة مع تركيا وبعض الدول العربية. فالنظام السوري الذي بقي حتى الأمس القريب يستثمر في الملفات اللبنانية، ومنها قضية اللاجئين، سيتقدم أكثر في هذه السياسة على وقع مآسي الزلزال المدمّر والكارثة الإنسانية. وفي المقابل، ستستثمر القوى المتحكمة في القرار اللبناني، وفي مقدمها "حزب الله"، المستجدات لتعزيز شروطها، ولا تكترث لما يجري في المنطقة، وهي تسعى لفرض أمر واقع في مواجهة الحراك الدولي حيال لبنان ودفعه لإعادة وصل العلاقات مع دمشق، لا سيما من بوابة فرنسا.

مسار التطبيع مع النظام السوري لا بد أن ينعكس على انتخابات رئاسة الجمهورية، فقوى الممانعة تسعى اليوم إلى استثمار الواقع الجديد الذي أحدثته كارثة الزلزال للسير في فرض مرشح "حزب الله" سليمان فرنجية للرئاسة، وإعادة تشكيل السلطة وفق أجندتها. ولا شك في أن زيارة نائب وزير الخارجية الإيراني كبير المفاوضين في الملف النووي الإيراني علي باقري كني الأخيرة لبيروت تعزز دور "حزب الله" في لبنان وفي اعتباره ساحة لا يمكن التنازل عنها، خصوصاً بقوله إنّ "أعداء هذه المنطقة الذين يتربّصون بها ما انفكّوا يمارسون الحصار الجائر والظالم في حقها، سواء تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية أو تجاه لبنان الشقيق"، مشدداً على أنّ "مستقبل لبنان ينبغي أن يُصنع من خلال إرادة الشعب اللبناني الحرة"، فيما استبق "حزب الله" نتائج اجتماع باريس، بإطلاق مواقف لبعض مسؤوليه ونوابه، ترفض أن "يفرض الخارج علينا أي اسم لرئاسة الجمهورية". ووفق عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب حسن فضل الله "لو اجتمعت كلّ دول العالم لتفرض اسماً على اللبنانيين، فلن تستطيع أن تفعل ذلك"، وهي رسالة تنصب حواجز أمام أي مشروع خارجي للتسوية، وإن كان وليداً يحتاج إلى متابعة، لمنعه من خرق جدار الأزمة من دون كلمة طهران الفاصلة والنهائية في هذا الشأن.

وإذا كان الخارج يبحث في تسوية للأزمة اللبنانية تختلف عن التسويات السابقة، أقله عن تسوية 2016 التي أوصلت ميشال عون إلى الرئاسة، إلا أن قوى الممانعة بقيادة إيران، ومن خلال التطبيع مع النظام السوري، تريد فرض أمر واقع يتخطى تلك التسوية. الخارج يسعى إلى تفاهمات مشتركة وتوفير الأرضية لانتخاب رئيس وتشكيل حكومة، مع تأكيد احترام اتفاق الطائف والقرارات الدولية، وإن كان هذا الشأن يرتبط بموازين القوى التي ستحدد طبيعة التسوية المقبلة، فالدول المشاركة في باريس تدرك أنها لا تستطيع أن تبلور خطة حل شامل للوضع اللبناني من دون التفاهم مع إيران. فإذا تركز البحث على اسم للرئيس يشترط ذلك توفير مناخ لبناني يستطيع ترجمة التوجهات الدولية، وهو أمر غير ممكن حالياً في ظل موازين القوى ومعها التوترات المستجدة في المنطقة.

المعطيات كلها تشير إلى أن "حزب الله" يسعى إلى فرض أمر واقع جديد، مستثمراً في التطورات بعد الزلزال، ويريد التسوية بشروطه، وهو يُصر على اسم سليمان فرنجية، وإذا اقتضى الأمر الضغط لفرض انتخابه، وبذلك هو مستعد للذهاب إلى النهاية تحت عنوان إيصال مرشح "لا يطعن المقاومة بالظهر" ولا مجال للنقاش في أي مرشح آخر. وفي انتظار أن تظهر نتائج اجتماع باريس سيتبين ما إذا كانت الدول المشاركة في الاجتماع ستستكمل حركة اتصالاتها لما يمكن تحقيقه، أم إذا حدثت تطورات إقليمية ودولية يمكن أن تغير من الأولويات في تسوية الأزمة اللبنانية. لكنّ هناك أمراً واقعاً جديداً بات للنظام السوري كلمة فيه، ولا أحد يعلم كيف ستكون مفاعيل استثماره على الأرض