في صبيحة يوم 7 يناير 2015، اقتحم مسلحون مقر صحيفة «شارلي ابدو» في العاصمة الفرنسية باريس، وفتحوا النيران على موظفي الصحيفة انتقاما من إعادة نشر الصحيفة لرسومات ساخرة مسيئة لسيدنا محمد (ص) ما أدى إلى مقتل 12 شخصا، كانت أولى ردود الفعل على هذا الهجوم المروع -الذي اعترف تنظيم القاعدة الإرهابي بمسؤوليته عن تنفيذه- خروج مسيرات منددة بهذا العمل الإجرامي، ومن بينها تلك المسيرات التي نظمت في باريس «مسيرة الجمهورية» وشارك فيها 50 من قادة العالم من بينهم قادة دول عربية.

بالطبع، لم يكن هذا التضامن ليعبر عن حالة الانتصار لما تنشره «شارلي ابدو» ورسوماتها الهزلية، بل كان رفضا واضحا لشرعنة الإرهاب، والرد على القلم بـ«الكلاشينكوف» وهو موقف نناصره مهما اختلفنا مع سموم حبر هذا القلم.

لقد دافع الفرنسيون عن إيمانهم بحرية التعبير التي يعتبرونها جزءا من «الرئة الفرنسية»، وأن أتت هذه الحرية على المعتقدات الدينية بسخرية تصل الى التجديف الديني. فمنذ الثورة الفرنسية في العام 1789، انتهى واقعيا أي سلطة دينية على المجتمع ومؤسسات الدولة، وقوانينها التي تعتبر ان حرية التعبير بروح الدعابة لها السيادة على مشاعر الطوائف الدينية، ولا حماية قانونية لأي رمزية دينية. أي بمعنى أن القانون هناك يحمي حرية الفرد بالسخرية، ولا يمنح الدين أي حصانة بما فيها «الكاثوليكية» التي كان لها في الماضي ثقلها الروحي والسياسي في حياة الفرنسيين عبر «بابوية افنينون» التي قارعت في الماضي «روما» بالسيطرة على قيادة العالم المسيحي (1) وفي ظل هذا المناخ من الحريات المصانة وفق القانون برزت سخرية «ملحدي شارل ابدو» من كل المعتقدات الدينية على نحو صادم. ويخطئ من يعتقد أن الإسلام ونبيه الكريم وحدهم من كان لهم نصيب من رسومات «شارل ابدو»، بل إن حصة المسيحية واليهودية من تطرف «اللادينيين» كانت أكبر بكثير. ولعل أسوأها ما نشرته الصحيفة في فبراير العام 2020 في تصوير ساخر لألواح سيدنا موسى «ع» والوصايا العشر وكتبت تحتها عبارات تهكم على الذات الإلهية، وغيرها من الرسومات التي طالت في العام 2014 السيدة العذراء ومولد المسيح «ع» في مجتمعات لنعترف أن شريحة كبيرة منها لم تعد ترى بالمسيحية سوى «شجرة كريسمس» في ديسمبر البارد!

ولكن لا يبدو أن السخرية من الأديان التي دافعت عنها إدارة تحرير الصحيفة بالقول إن الدين إذا تجاوز المجال الشخصي، فيجب معاملته كأي رأي سياسي (2)، هي من تشكل توجهات «مطبخ» التحرير في «شارل إبدو».
ففي الأسبوع الماضي، وبينما كان العالم يحاول استيعاب الكارثة الإنسانية التي خلفها الزلزال المدمر الذي ضرب 10 محافظات في جنوب تركيا، وأجزاء من شمال سوريا الجريحة، وخلف آلاف القتلى والجرحى، والناجين الذين باتوا دون مأوى. سارعت «شارل ابدو» لنشر سخريتها من مآسي الناس عبر رسم لمبنى مدمر، وسيارة مقلوبة دونت تحته عبارة «لا داعي حتى لإرسال دبابات!» هذا الطرح وضعنا أمام تساؤل مفاده هل حقا «شارل ابدو» تسخر من المعتقد الديني -كرأي سياسي- وليس من البشر كأناس لهم الحق بالحياة والاختيار وممارسة الحرية؟ أم أنها واقعيا تنتقي توزيع الكراهية للناس وفق جذورهم ودياناتهم واصولهم في سياق يتعدى حق الفرد بالتهكم الذي تحول إلى أمر مقزز لا يشبه الحرية كقيمة إنسانية تقوم على مبادئ المساواة بين الناس، وليس الرقص فرحا بموتهم بسبب زلزال؟ الحقيقة أنها ليست المرة الأولى التي تسخر فيها «شارل ابدو» من مآسي الناس كبشر وليس بناء على آرائهم السياسية. فبالعودة إلى أرشيفها، نجد أن الصحيفة قد نشرت في نوفمبر 1978 غلافا لزعيم النازية ادولف هتلر وهو يرقص ويقول: «مرحبا أيها اليهود، ما أخبار الغاز؟!»، وأرفقته بعبارة «رائع للغاية» وذلك في إشارة الى الغاز الذي قتل فيه النازيون ملايين اليهود في معسكرات الإبادة «اوشفيتز». وفي الأسبوع التالي لذلك الغلاف، نشرت الصحيفة غلافا يشير إلى سيدة يهودية رسمت في وضعية تسخر من انسانيتها وتحته عبارة بذيئة. ليس هذا فقط، ففي يناير 1979 نشرت المجلة غلافا لمعتقلين يهود في معسكرات النازيين ويبدو شخص يقف خلف الكاميرا ويطلب منهم ان «يبلعوا بطونهم» كي تظهر الصورة بشكل افضل! ولو افترضنا أن هذه السخرية لم تكن تستهدف اليهود على أساس «معاداة السامية»، وان الامر لا يتعدى مجرد التهكم، فلما لم يتم التهكم على ضحايا الإبادات الجماعية الأخرى التي شهدها التاريخ طالما إن الصحيفة سخية بهذا الكم من الابتذال؟ وإذا كانت الصحيفة ترى بالتهكم على ضحايا قضوا في زلزال أمرا يدعو للسخرية، فلمَ لم نرَ رسومات تسخر من ضحايا الكوارث الطبيعية في بقاع أخرى؟ أم أن الفكر العنصري الذي مارس كل أشكال الاستبداد بحق اليهود على مدار قرون مضت ثم جريمة «الهلوكوست» (3)، هو ذاته الفكر الذي يغذي اليوم تنامي الإسلاموفوبيا (4) في دول أوروبية، والإساءة إلى معتقداتهم وآخرها حرق نسخ من المصحف في دول أوروبية، وأكاد أجزم أنه لولا أن القوانين الفرنسية تجرم الادلاء بتصريحات تنفي او تشكك بحدوث «الهلوكوست» لما ترددت الصحيفة بالتشكيك بحدوث هذه الجريمة، لكن المسألة بالنسبة لها أقرب ما تكون السير بدهاء على حبال في سيرك، يعني السقوط منه الملاحقة القانونية! واليوم بات هناك حاجة أكثر من أي وقت مضى أمام المسلمين لإتقان السير على الحبال بذكاء، وخوض المعارك القانونية دون طلقة «كلاشينكوف» واحدة!

هوامش:

(1) الانشقاق الغربي «الكاثوليكي» من العام 1309 إلى 1376 حين انشق سبعة من البابوات في أفينون الفرنسية عن روما.

(2) رد رئيس تحرير «شارل ابدو» جيرار بيار على سخرية الصحيفة من المعتقدات الدينية، موقع مجموعة مونت كارلو 2020.

(3) المحرقة، أو «شوأة» بالعبرية، وهي الإبادة الجماعية التي راح ضحيتها ما يقارب ستة ملايين يهودي، أكبر إبادة جماعية في التاريخ نفذها النازيون خلال الأعوام 1941-1945 بسبب كراهية هتلر لليهود على أساس عرقي، وكان الهدف منها تقليل عدد اليهود في أوروبا.

(4) ظاهرة برزت بسبب تزايد أعداد المسلمين في أوروبا والولايات المتحدة، وتقوم على الخوف من الإسلام واعتباره مصدرًا للإرهاب.