سألني صديق من جنسية عربية كان يزور البحرين في 14 فبراير عن معنى ميثاق العمل الوطني عندنا في البحرين؟ ولماذا يحتفي الجميع بهذه الوثيقة؟ ولماذا لا زالت تكتسب كل هذا الزخم رغم مرور أكثر من عشرين عاما على إطلاقها؟ ولماذا يتم تبادل التهاني بهذه المناسبة كما لو أنها مناسبة وطنية؟ ربما تحتفي الدول الأخرى بذكرى استقلال أو تحرر أو إقرار دستور، لكني أرى البحرين تحتفي أيضا بوثيقة وطنية؟

أخذت نفسا عميقا، وعادت بي الذكريات لأيام الميثاق الجميلة، عندما كانت البحرين تنتقل من مرحلة حضارية إلى مرحلة مستقبلية أشمل وأعلى وأكبر، وكيف تحولت البلد بأكملها إلى ورشة عمل بمشاركة الجميع، وكيف تلاحمت الأيدي لتبحر بسفينة الوطن إلى بحر أوسع وأكثر ألقًا وجمالاً.

كل ذلك برؤية وهمة وعزم وإصرار رجل واحد، قائد واحد، هو حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى عاهل البلاد المعظم، والذي أثبت منذ ذلك الوقت أنه قائد ذو رؤية ثاقبة، يحمل كل الحب لوطنه وأرضه وشعبه، مخلص لمسيرة آبائه وأجداده، وجاد في نقل وطنه إلى مصاف الدول المتقدمة في كل شيء؛ في السياسة والديمقراطية والاقتصاد والفن والرياضة وجميع مجالات التنمية.

كان جلالته يملك الرؤية متكاملة، ولديه الأدوات اللازمة لتنفيذها، لكنه لم يرغب أن يأمر بتنفيذها، بل أراد أن يشارك الشعب فيها، وأن تخرج من الشعب، بمشاركة كل أفراد الشعب ومكوناته على اختلاف مستوياته، لا أن يشعر وكأنها مفروضة عليه، لا بأس طالما أن النتيجة واحدة: دولة مدنية ديمقراطية تتسع للجميع ويشارك في تنميتها الجميع.

لقد أشرف جلالته حفظه الله بنفسه على تهيئة كل الأجواء اللازمة لكتابة هذا الميثاق، وتدخل فقط عندما احتاج الأمر لتيسر هذا الاجتماع أو عمل تلك اللجنة، حتى أن بعض المشككين بجدية هذا العمل عاد وتراجع عن موقفه عندما أدرك ورأى كيف تتطور الأمور على الأرض الواقع، وكيف التف الشعب البحريني حول قائده وميثاقه، وشارك في التصويت على هذا الميثاق أكثر من 90% من الشعب البحريني، 98.4 من بينهم قالوا: نعم لميثاقنا، نعم لقائدنا، نعم لمستقبلنا.

لقد عاصرت تلك المرحلة بكل تفاصيلها، وتربطني صلات قوية مع أصدقاء كثيرين ساهموا في كتابة ميثاق العمل الوطني، من الرجال والنساء ذوي الأفكار النيرة والخبرات العميقة المتراكمة، والذين اجتمعوا وتباحثوا وتناقشوا، وربما اختلفوا، وأخيرا اتفقوا على وثيقة وطنية جامعة تصلح لأن تكون مرجعا لكل الدول الساعية خلف تعزيز اللحمة الوطنية والانطلاق نحو المستقبل بإرادة شعبية جامحة، كان جلالته هو من أشعل شرارته بحكمته ورؤيته الصائبة.

كل هذا الكلام كنت أقوله لصديقي الزائر، أقول له: لو أن القادة العرب الذين اجتاح دولهم الخريف العربي درسوا التجربة البحرينية بتمعن -رغم محدودية المساحة الجغرافية وعدد السكان في البحرين- لربما تصالحوا مع شعوبهم منذ البداية، وأسسوا قاعدة راسخة يمكن الاستناد عليها في كل مرة يصيب البلد أزمة سياسية أو اقتصادية، ولربما وفرنا على نفسنا حمام الدماء وحجم الدمار الذي ضرب تلك الدول وحولها إلى دول فاشلة.

أقول له: لا يكفي أن تكون لديك وثيقة وطنية، بل أن يجب أن تتضمن هذه الوثيقة آليات عمل فاعلة، وهذا ما حدث في البحرين، عندما نتج عن ميثاق العمل الوطني دستور العام 2002، ومؤسسات ديمقراطية من بينها مجلس الشورى والنواب، وباتت جميع مؤسسات ومفاصل الدولة عصرية، تعمل بكفاءة، بما فيها مؤسسة القضاء التي أصبحت أكثر قوة ونزاهة وحيادية وشفافية، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني.

قطاع الأعمال كان أيضا من أكثر المستفيدين من ميثاق العمل الوطني. تحرر الاقتصاد، وأصبحت البحرين قبلة للمستثمرين. كان القطاع البنكي قويا، لكن ازدهرت قطاعات أخرى لم تكن كذلك، مثل الاتصالات، والخدمات اللوجستية، وقدمت البحرين مثالا عن الدولة الصديقة للأعمال. حيث إن رأس المال جبان، والاستثمارات تبحث عن الدول المستقرة، تبحث عن الاستقرار الطويل والتخطيط المستدام، وهذا ما وفرته البحرين إبان تلك الفترة ولا زالت حتى اليوم.

الجميع في البحرين يعيشون بكرامة، مطمئنين على حياتهم وعائلاتهم وأحبائهم، وعلى أموالهم وأملاكهم، والناس تخرج من منزلها صباحا يفكرون في يوم أجمل. يواجهون تحديات بلا شك، لكنها تحديات بسيطة لا تقارن بما يواجهه الناس في مناطق أخرى من العالم يضربها العوز والجوع والنزوح والفتن. لقد أعطانا الدستور آفاقا رحبة لنفكر ونحلم ونعمل ونبتكر. نعرف بالضبط حقوقنا وواجباتنا، ونستيقظ كل يوم لنحقق حلما جديد.

قلت لصديقي: يا عزيزي، هذا الميثاق مقدس، بقداسة الدستور، والحكم، والشعب، تحرسه إرادة ملكية تضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار، ولا تسمح بأي انحراف أو خلل، حكيمة، متسامحة، مرنة، لكنها في الوقت ذاته شديدة حاسمة عندما تستشر أن أمن البلاد والعباد في خطر.

نحن يا صديقي نحتفي بهذا الميثاق لنؤكد التزامنا به، وبالنهج الراسخ لجلالة الملك المعظم، ولنتذكر ونذكر بعضنا بالأسس التي بنيت عليها مملكتنا العزيزة، وبأن قيمة كل منا تحدد بما يعطي لنفسه وأهله ووطنه، وأن الجميع سواسية أمام القانون، وأن مسيرتنا نحو استكمال البناء الديمقراطي مستمرة.

نحتفي بميثاق العمل الوطني لنثبت أننا لسنا من الدول التي تغير دساتيرها وتوجهاتها وأفكارها بحسب الأهواء السائدة وإرادة الأقوياء في السلطة الذين يصبحون ضعفاء غدا ليأتي أقوياء غيرهم ويغيرون الاتجاه كاملا، فتضيع سفينة الوطن بين الاتجاهات، تسير، لكن في دائرة مغلقة، بلا بوصلة ولا بهدف، وبلا شاطئ ترسو عليه.

طلبت من صديقي أن أصطحبه بزيارة إلى صرح ميثاق العمل الوطني، الذي تم إنشاؤه ليكون شاهدا راسخا على عظمة يوم الميثاق، ويسجل على ألواحه أسماء البحرينيين الأوفياء الذين صوتوا للميثاق، هذه الأسماء التي حفرت على الحجر لكي تبقى على مر الزمن لا تمحى من الحجر ولا ذاكرة الشعب ليأتي الأبناء والأحفاد ويشاهدوا أسماء أجدادهم ممن شاركوا في تخليد هذه الحقبة الزمنية المهمة في تاريخ البحرين وما تحمله من بدء الحياة الديمقراطية في البحرين.

طلبت منه زيارة هذا الصرح الذي يعكس تنوع وغنى المجتمع البحريني، والذي جعل من هذه الأرض مكانا لا مثيل لها للتعايش والتسامح بين جميع الطوائف والأديان، صرح يتحدث عن كل ما يجول في داخلنا عن حب هذا الوطن وقيادته وشعبه.