«لبنان بلد طائفي، مع الأسف»، عبارة يرددها المسؤولون وممثلوهم من الكتل والأحزاب في كل حين، فقط ليبرروا منطق المحاصصة السائد تلبية لجوعهم العتيق إلى تناتش المناصب في الإدارات والمؤسسات الرسمية ليرسّخوا نفوذهم وتحكمهم بالعباد والبلاد.

«لبنان بلد طائفي»، صحيح، ولكن الأسف مصدره قادة الطوائف الكبرى على وجه التحديد، فهم يمتهنون المتاجرة بالطائفة وتجيير ما يدّعون أنّها «حقوقها» لمصلحتهم ومصلحة بطانتهم. وهم غالباً ما يهددون بأنّ عدم مراعاة خصوصيات الطوائف يهدد السلم الأهلي والميثاقية الاستنسابية التي يتذرعون بها.

يخافون إذا حاول البعض من خلال الأرقام توضيح حقيقة ما، وينسون أنّ البلد يفرغ من أهله. فقد ذكر إحصاء أنّ أكثر من 200 ألف لبناني هاجروا عام 2022، وتوقّع رقماً مماثلاً سنة 2023.

على أي حال هم في عداء مستحكم مع الأرقام، فلا أحد يمكن أن يؤكد رقماً متعلقاً باللاجئين الفلسطينيين أو النازحين السوريين أو العمال الأجانب. ذلك أنّ تغييب الرقم أو تضخيمه له وظيفته في أجنداتهم.

يُعيِّر بعضهم بعضاً، بأنّ المسيحيين مثلاً يتركون البلد ويهاجرون عندما تتضرر مصالحهم الخاصة بسبب الأزمات الإنسانية، ويتجاهلون أنّ الهاربين في قوارب الموت، إنما يرمون بأنفسهم إلى التهلكة لعجزهم عن الحصول على تأشيرات «شرعية» لا تستدعي هذه المغامرة.

يحاولون أن ينفوا عن أنفسهم تهمة الطائفية، وينكرون أنّ الخيارات التي اتخذها قادة أحزابهم الطائفية لم تخدم لا المسيحيين ولا المسلمين. أكثر من ذلك، لم يضر زعيم بطائفة ما أكثر مما أضر بطائفته، وتكفي عملية رصد بسيطة للمواقف النارية الشعبوية لهذا الزعيم أو ذاك لتؤكد هذا الواقع، ومدى لامسؤولية المسؤولين عندما يزجون بأبناء طائفتهم في صراعات أو مشاريع انتحارية أو يسممون مجتمعاتهم الصغيرة بكل الشحن والحقد والانعزالية ورفض الآخر وتخوينه.

وبالمقابل، يمعنون في خطابات التكاذب السياسيّ والدبلوماسيّ عن «الشراكة الوطنيّة» و»الميثاقيّة» و»العيش المشترك»، ويتحدثون عن الطوائف الأخرى مستخدمين توصيف «إخواننا المسيحيين أو المسلمين أو الأرمن أو الدروز» أو... وفي ذلك تمييز عنصري مغلف بأخوة مزيفة.

ينشطون لازدهار ونشاط في سوق الفرز الطائفي، ويتشاطرون لتوسيع اللامركزية الإدارية صوب التقسيم، أو يمارسون التقسيم المغلف بخصوصية مناطقهم من الضاحية الجنوبية لبيروت إلى عمق زاروب «الطمليس» في الطريق الجديدة مروراً بآخر قرية في أعالي الجرد.

تعلن مرجعياتهم الدينية من كنيسة ومسجد وحسينية حال الطوارئ والتعبئة العامة، عندما تصدر كلمة يمكن أن تدلل على علة ما تحول دون قيام وطن... أو عندما يرد رقم يشعرهم بالقلق على نفوذهم. وقطعاً لا ينحصر الخلاف على الأرقام بالمنحى الديموغرافي فقط، ولكنه يكمن في كل المرافق الاقتصادية والاجتماعية.

وأيضا، ومع هذا، عندما يحتاجونها، لا يتورعون عن التمسك بمقولة «وقفنا العد»، التي أرسى أسسها الشهيد رفيق الحريري، ليؤكد المشاركة الوطنية في السراء والضراء، والمناصفة في كل الوظائف والحقوق والواجبات، والجيش والإدارات، وذلك من خلال اتفاق الطائف. ويتجاهلون أنّ ضرب الطائف وظيفته الوحيدة العودة إلى العدِّ.

المهم حماية مصالحهم ومواصلة الاستحواذ على السلطة والقرار الوطني بابتداع نغمة «الديموقراطية التوافقية» و»الأكثرية العددية»، وما إلى ذلك من وسائل تسمح لهم بمخالفة الدستور والقفز فوق كل مواده وتفسيرها على قياس مشاريعهم.

ولا يحتاجون ما قاله رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي عن تقرير وصله ومشكوك في صحته، ليهبوا ويهتفوا «يا غيرة الدين»، أمّا نحن فلا نحتاج إلّا إلى إبقاء الدين في مكانه الصحيح والطبيعي، وإبعاده عن التحول أداة سياسية، واعتماد المواطنة معياراً ليتوقف العد فعلاً.