عاش لبنان، على مدى سنوات طويلة، نوعًا من "الفدراليّة الواقعيّة". حاليًا، هو يمر بنوع من "فدراليّة الفوضى". والهواجس التي يثيرها أداء الطبقة السياسيّة يتصل بمصير لبنان، في المستقبل، فهل هناك قدرة على تفادي التقسيم الذي بات يعتمل في نفوس شرائح لبنانيّة وازنة، في ظل قناعة، مكبوتة هنا ومعلنة هناك، بأنّ "اتفاق الطائف" إمّا غير صالح، من أساسه، لأنّه بُني على معادلة "تأبيد" وصاية النظام السوري على لبنان، أو لأنّه غير قابل للتنفيذ، إلّا بتحرير القرار الوطني من هيمنة "حزب الله"، وهذا يقتضي، بالمعطيات الحاليّة، الموافقة على الدخول مع "حزب الله" في حرب "الدفاع عن المقاومة"؟

من الواضح، راهنًا، أنّ الحرب في لبنان "محظورة"، فالدعم المالي الذي يتلقاه الجيش اللبناني، وفق خريطة طريق، وضعتها الولايات المتحدة الأميركية وتنفّذها بالاشتراك مع أقرب حلفائها الإقليميّين، تبيّن، بما لا يقبل الجدل، أنّ الرهان ليس على حرب بين القوى السياسية والحزبية والطائفية المتصارعة، بل على الحد الأدنى من الاستقرار الأمني والعسكري.

ولكنّ الأداء السياسي، إذا ما استمرّ على وتيرته الطائفية التصعيديّة، من شأنه أن يصعّب المهمة مستقبلًا على قيادة الجيش اللبناني التي تسعى، بكل ما تملك من إمكانات، إلى عزل ضباطها وجنودها عن التأثيرات الطائفية الضاغطة، وهي من أجل "إغرائهم بالوطنيّة" ذهبت إلى حدّ السماح لهم بما كان سابقًا مستحيلًا: القيام بأعمال خاصة من أجل سدّ الفجوة الماليّة في مداخيلهم.

وإذا تقاطعت المعطيات الخارجية مع الانقسام الطائفي الذي يتصاعد في لبنان، فإنّ الحصانة الأمنية والعسكرية التي يوفّرها الجيش اللبناني، منذ الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، سوف تتلاشى، الأمر الذي يعني جرّ لبنان إلى درك جديد في جهنّم التي وقع فيها.

ولهذا فإنّ المسألة التي تشغل بال الجميع تتمحور حول الطريق الذي لا بدّ من اعتماده حتى يتفادى لبنان هذا المصير الأسود، لأنّ الوصول إلى التقسيم، ولو اعتبره البعض "أبغض الحلال"، لا يكون إلا عبر وادي الدماء والدموع.

وبيّنت الوقائع التي حفلت بها الأيّام الأخيرة، أنّ الرضوخ الذي كان قد ميّز المراحل السابقة لم يعد ممكنًا حاليًّا، لأنّ المكاسب التي كانت تجمّل هذا الرضوخ لم تعد متوافرة، فلا السلطة مهابة، ولا الخزائن ممتلئة، ولا المناصب محترمة، ولا المكاسب مضمونة، فالانهيار لم يغيّر المعادلات فحسب، بل الطموحات أيضًا.

حتى الأمس القريب، كان "حزب الله" يتعاطى مع الواقع اللبناني، وفق معادلات عام 2016 التي مكّنته من إيصال العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهوريّة، ولكنّ "بالونات الاختبار" التي رماها رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، بيّنت أنّ نظرية القديم على قدمه سقطت.

ولكن هل التقط "حزب الله" هذه الحقيقة المستجدة؟

البعض فسّر الكلام الأخير الصادر عن رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" محمّد رعد على أنّه إشارة إلى أنّ "الرسالة وصلت". إذ إنّه، ما إن سقط قرار تأخير العمل بالتوقيت الصيفي تحت ضربات "الوحدة المسيحيّة"، حتى بادر إلى إسقاط نهائي للتهديد بالذهاب إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة، من دون موافقة الغالبية المسيحيّة في المجلس النيابي.

وكان رعد قد قال: “لا أحد في لبنان يستطيع أن يدير شؤون البلد من موقعه الطائفي على حساب باقي المكوّنات، ولا أحد يطمح لذلك على الإطلاق، كلّنا نطلب شراكة ونسعى من أجل أن تكون الشراكة حقيقية، قائمة على الاحترام المتبادل والمواطنية الصادقة وعدم التمايز والتمييز بين المواطنين".

وإذا كان هذا الكلام يعبّر فعلًا عن توجّه جديد لدى قيادة "حزب الله"، فهذا يعني أنّ "الثنائي الشيعي" اقتنع بوجوب إسقاط ترشيح رئيس "تيّار المردة" سليمان فرنجيّة، لمصلحة مرشّح وسطي يبدو أنّ الغالبية اللبنانيّة مستعدة للتوافق عليه.

آخر التسريبات الصادرة عن "الثنائي الشيعي" تفيد بأنّ معادلة "فرنجية أو لا أحد" لا تزال قائمة، ولكنّ أحد كبار السياسيّين اللبنانيّين ممّن سبق لهم أن عملوا على خط التوافق، لفت الانتباه إلى أنّ هذا التشدّد الذي تتضمّنه التسريبات، هو على الأرجح، في سياق "تحسين شروط التفاوض على البديل والصفقة الكاملة التي سوف ترتبط به".

ولكن، إذا كان التسريب هو الحقيقة والتفسير المعطى للموقف المعلن هو "مهادنة مرحليّة"، فإنّ المخاوف من الآتي كبيرة، لأنّ الجميع، في هذه الحالة، سيكون في طور إعداد المعركة التي لن تكون، هذه المرّة، سياسيّة وإعلامية فقط.