«ثقافة» ليست كلمة أدبية او علمية او اجتماعية، او مصطلحا تاريخيا، بالمعنى العام لتلك الكلمات التي نجدها في المخطوطات القديمة من ادب وفكر وسياسة ودين وفلسفة. بمعنى أن هذه الكلمة لم ترد في الياذة هوميروس ولا في مؤلفات أفلاطون ولا في المُؤَرَّخاتِ من تاريخ الشعوب والحضارات القديمة، ولم تكن قد ولدت بعد، رغم أنها تعريفيًا وواقعيًا موجودة في جوهر الفكر الانساني منذ بداية تحسس الانسان بدبيب الفكر، وخاصة الفكر الانساني، في خلايا كيانه العقلي.. للكلمة شهادة ميلاد، بعد فترة طويلة من مخاض مرهق، وتأكد من حق الوليد في شهادة تقر بوجوده وشرعيته حيث يجب أن يكون..

تولدت كلمة «ثقافة» culture من أصل لاتيني وهو الفعل colere والتي تعني زراعة، ما يعني أن أصل الكلمة من نتاج ارتباط طبيعي - إنساني هو أساس حياة الانسان، هذا الارتباط، الذي يعيش به الانسان، هو التفاعل بين الانسان والتربة التي يعيش عليها والانسان الآخر الذي يعيش معه، وعملية الحرث في التربة ودس البذور فيها وريها وانتظار محصول الحياة منها.. إنها ولادة حياة من حياة تسعى الى الرقي بالحياة. مع النهوض التاريخي، فيما يعرف بعصر النهضة، وانبعاث الانوار منه، وبالتحديد في القرن الثامن عشر، حيث ثبتت كلمة «ثقافة» في البنية الفكرية لعصر الانوار. الكلمة عند مولدها اقترنت بالآمال الراقية للانسان، وهي مجموعة افكار انسانية جادة تقترن وترتبط وتلتزم بأهمية التقدم الفكري والارتقاء التربوي والتطور الحضاري، وأُسُّ الثقافة «النقد والفلسفة»، إذ يستحيل التقدم والتطور والرقي دونهما، أي أنه يستحيل لهذا المولود، الذي خرج من رحم عصر الانوار، أن يعيش ويؤدي دوره التاريخي - الانساني إذا لم يتغذَ من ثمار النقد على مائدة الفلسفة..

مع مرور الوقت واستئناس الانسان لكلمة «ثقافة» في التفاعلات الفكرية والأدبية، وحتى العلمية والرسمية، أسبغ الانسان على مجموعة من الانشطة والمواضيع الحياتية صفة ثقافة حتى وإن كانت بعيدة عن قيم الثقافة، وهذا حَمَّلَ الكلمة تعريفات ومفاهيم متعددة متضاربة، وعندما يوضع الشيء في غير موضعه، فإن هذا الشيء يفقد قيمته ومن ثم تأثيره وبالمحصلة دوره الطبيعي، وبالنسبة للثقافة دورها الانساني.

بينما الثقافة، لغويًا واصطلاحيًا واجتماعيًا، هي من إرهاصات النفس البشرية، هذه النفس التواقة، في جوهرها، الى روح مطمئنة وهي تتعامل وتتعاطى مع ذاتها الانسانية في حشد بشري، وبهذا التعريف المقتضب، فإن الثقافة المقصودة، في جوهرها، هي تلك التي يتربي تحت جناحيها وفي أحضانها المخرجات الفكرية التي تسعى الى خير البشرية، أي أن الثقافة نور الذي يسترشد به الانسان في مسيرته الحياتية من أجل حياة انسانية أفضل وارقى..

خرجت الثقافة من رحم النور، أي من تراكمات الفكر والتفكر والذي يزداد وضوحًا وبريقًا مع تعاقب الزمن، وكان لا بد لهذا المولود النوراني أن يتربى ويمارَسُ أهدافه وقيمه من لدن عقول تؤمن بحتمية سيادة النور على الظلام، لأن النور كَشّافٌ لا يواري السوءات، بينما الظلمة ستار لكل المظالم والموبقات. مع الثقافة انبرى، من بين أهل الفكر والأدب والتربية والتعليم وحتى من عموم الناس من ذوي القيم العالية والفضيلة، الانسان الملتزم بالانسان في كليته البشرية، وهذا لُبُّ الثقافة، فتميز بين أهل القلم والفكر الانسان المثقف.. ثقافة يحمل لواءها مثقف يتنفس بحرية الراي والتعبير. عشاق الظلام حتمًا يشعرون بالخوف ويرتعبون من مجرد كلمة «مثقف» فكيف بالمثقف نفسه الذي الزم نفسه أن يزيح الظلام كي يتكشف المستور المخزي، وكلما زادت مساحة النور كلما تقلصت مآسي الناس، وهذا ما لا يرضي من يعيش ويترفه على مآسي الناس.

مع تعاقب الزمن الثقافي اشتد الصراع أكثر وأكثر واخذ يزداد عنفاً بين رواد النور (الثقافة) وزمرة الظلام، ولكن لسوء حظ الثقافة فإن ميزان القوة الاجتماعية مازالت تميل بشكل قياسي في صالح من يحتكر المال والاعلام ويحيطهما بسور من مخدرات العقول وملوثات النفوس. المرعوبون من الثقافة كُثْرٌ وهم يلوكون الكلمة، حيث لا تستسيغها قيم الثقافة، ويرسمونها في غير موضعها ومواضيعها، ويحشرونها في دهاليز مظلمة حتى يخبو نورها، وتبقى مجرد حروف مركبة في كلمة لا روح فيها. جهود حثيثة لجعل الثقافة بعيدة عن الفكر الانساني الملتزم، وحتى تتحول الى مجرد كلمة جامدة لا حياة فيها، رغم أن الثقافة هي الروح التي تبث في فكر الانسان ونفسيته حيوية التطور والتجدد خدمة للانسان ذاته في إطار إنساني شامل.

عقل الانسان وَلَّدَ الثقافة من أجل أن تروي الثقافةُ تربةَ الانسانِ بروحٍ إنسانيةٍ راقية، تربة تثمر حب الانسان للانسان حتى يعم السلام وتتلاشى روح العداء وتصبح الحروب من الماضي الكريه المكروه، حيث لا سبيل الى عودتها بعد دفنها، أمل مازال يداعب نفوس البشر في كليته الغالبة. لكن، يا للعجب من زمرة منفوشة الريش تتسلط على مصير الانسان وتابى أن لا تكون النعم والخيرات إلا لها دون غيرها، وهي بهذا السعي المفرط بالأنانية تجد نفسها، وبفعل طبيعتها، عدوة للثقافة، وتعمل كل جهدها من أجل إخراج الثقافة من سياقها، بل والصاقها بما لا يليق بقيم الثقافة.

وسط المعركة، حامية الوطيس، بين حاملي لواء الثقافة وأعداء الثقافة نسمع هذه الصرخة: «جاء علينا حين من الدهر كانت كلمة مثقف فيه علامة أن المواطن هو فعًلا صاحب مقام رفيع. كان احترام الثقافة والمثقفين جزءًا لا يتجزأ من قِيم شعبنا وتقاليده الراسخة، بحيث إن عامة الشعب حين كانت تريد أن ترفع من قيمة المتعلم أو المثقف تميزه بكلمة أفندي وتُسمي العامل الكفء المثقف أُسطى أو بمعنى حقيقي أستاذ». بهذه الكلمات افتتح الأديب الدكتور يوسف إدريس مقالته «أهمية أن نتثقف يا ناس».. كتب مقالته، في كتاب يحمل نفس العنوان، وهو يتألم حسرة على الناس وهي تتباعد يومًا بعد يوم عن أنوار الثقافة، مدفوعة، دون وعي منها، الى ما يشغلها عن مواضيع الثقافة وأهمية الثقافة، وضرورة الثقافة للارتقاء بالحضارة.. لكن، من مميزات هذا الصراع، أن الثقافة مهما كانت ضعيفة أمام جبروت العدو إلاّ أنها ليست قابلة للانهزام مطلقًا.. الثقافة شعلة خالدة لا ينطفئ نورها.