ما كنت سأذكر أنه في 25 أبريل الحالي يكون قد مر نصف قرن على وفاة الرئيس اللبناني فؤاد شهاب، لو لم يرسل لي الصديق الأستاذ خضر حلوة – السفير اللبناني السابق في الكويت – رابطاً لتقرير وثائقي عن المرحوم شهاب أعدته «الجزيرة» بهذه المناسبة. ولا شك أن اللبنانيين يحملون ذاكرة مفعمة بالحسرة على الفترة الشهابية الأولى (1958–1964) برئاسة فؤاد شهاب، والفترة الشهابية الثانية (1964–1970) برئاسة شارل الحلو، التي يمكن تلخيص مكانتها الاقتصادية بأن الدولار الأميركي كان فيها يعادل ليرتين ونصف الليرة، والدينار الكويتي ثماني ليرات.

ومن ناحية أخرى، فإن هاتين الفترتين الشهابيتين تذكرانني بعلاقة الكويت ولبنان في تلك الفترة، وحضور الإعلام اللبناني وبالذات الصحافة اللبنانية والمصرية في الكويت. ففي تلك الفترة كانت «النهار» و «الأنوار» و«الحياة» اليومية، و«الأسبوع العربي» و«الصياد» و«الشبكة» و«الموعد» الأسبوعية متوافرة ليس بالمكتبات في شوارع فهد السالم والنقرة وحولي والسالمية، بل كانت تباع كذلك في البقالات. هذا إضافة إلى الصحف والمجلات المصرية «الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية» و«المصور» و«آخر ساعة»، و«حواء»، الصحيفة النسائية التي كانت ترأس تحريرها السيدة أمينة السعيد. وكانت أختي الكبرى من الملتزمات بقراءة «حواء».

وربما نجد مكونات شخصية فؤاد شهاب المميزة والزاهدة مدفونة في بداياتها الأولى، فهو سليل الأسرة الشهابية التي حكمت لبنان لعقود عديدة، لكنها لم تكن غنية، فاضطر والده عبدالله شهاب للهجرة إلى الولايات المتحدة عام 1907 عندما كان عمر فؤاد خمسة أعوام. ولعل من أهم مكونات شخصية فؤاد الصغير أنه فقد أباه بعد هذه الهجرة ولم يره أبداً. ويعتقد أن عبدالله شهاب الوالد قد غرق بالسفينة التي كانت تقله من ميناء مرسيليا الفرنسي إلى نيويورك. ولضائقة العائلة المادية اضطر فؤاد لترك المدرسة عن عمر 14 سنة والعمل في سراي الحكومة ثم انضم لصفوف القوات الفرنسية عام 1919 لعام واحد. ومن خلال عمله هذا تعرف على ابنة ضابط فرنسي فتزوجها. وكان لانتمائه لعائلة من الأمراء الأثر في قبوله في الكلية العسكرية في حمص عام 1921، فتخرج فيها برتبة ملازم عام 1923. وتلقى بعدها دورات تدريبية عسكرية في فرنسا. وفي عام 1942 وعندما أصبحت القوات الفرنسية بلبنان تحت إمرة شارل ديغول، عين فؤاد شهاب قائدا للفرقة اللبنانية التابعة للحكومة الفرنسية الحرة. وأصبحت هذه الفرقة اللبنانية بعد الحرب الثانية، نواة الجيش اللبناني المستقبلية. وفي عام 1949 رُقِّيَ فؤاد شهاب قائداً للجيش اللبناني.

ولكن لمعرفة بداية نشأة الخلافات السياسية الحادة في لبنان، لا بد من العودة لعام 1952، فبعد نهاية ولاية بشارة الخوري الرئاسية وعدم تمكنه من تشريع انتخابه لدورة ثانية، انتخب المجلس النيابي الذي كان عدد أعضائه آنذاك 55 نائباً كميل شمعون رئيساً للجمهورية. وخلال فترة شمعون الرئاسية تولى العسكريون الحكم في مصر، ثم كان لتولي جمال عبدالناصر الرئاسة الأثر الكبير في الوضع الداخلي للبنان، فقد قاد عبدالناصر تياراً عربياً ينادي بالوحدة العربية، بينما نشأ في مقابله تيار معارض يقوده النظام الملكي في العراق الذي شكل مع بريطانيا والأردن وإيران وتركيا وباكستان. وقد وجد الرئيس اللبناني كميل شمعون أن مصالح لبنان تلتقي مع أهداف هذا الحلف، لكن كثيراً من اللبنانيين – خاصة من السنة – وجدوا أن يكون لبنان أقرب إلى التيار الناصري. وكان لتوحيد سوريا ومصر تأثير قوي لنشأة تيار سياسي معادٍ لتوجهات الرئيس شمعون بتقريب لبنان إلى دول حلف العراق.

وقد أحدثت محاولة الرئيس شمعون لتجديد ولايته عام 1958 معارضة شعبية كبيرة لعدم دستوريتها، ولكونه معارضاً لجمال عبدالناصر، فأحدث ذلك اضطرابات داخلية تحولت إلى حرب أهلية محدودة، توقفت بعد أن أنزل الأميركيون 14 ألف جندي في منطقة الأوزاعي في بيروت بطلب من الرئيس شمعون. وخلال فترة الاضطرابات رفض اللواء فؤاد شهاب الانصياع لأوامر الرئيس شمعون بتدخل الجيش مع طرف ضد طرف آخر. وفي جوٍّ متأزم عقد المجلس النيابي جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية، وكان هناك إجماع على انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيسا، الذي رفض في البداية، ثم قبل أن يكون رئيساً لمدة سنتين فقط تكون كافية لاستعادة الوضع الأمني المستقر. وفعلاً، وفي عام 1960 وبعد سنتين على انتخابه قدم الرئيس شهاب استقالته لانتخاب رئيس مدني خاصة أنه قد قدم إصلاحات مهمة خلال سنتيه الرئاسيتين، لكن غالبية أعضاء البرلمان هبوا لمنزله في جونية وتمكنوا من إقناعه بإكمال فترة رئاسته.

وخلال الفترة (1960–1964) من رئاسته، استمر في اصلاحاته السياسية والإدارية والاقتصادية. فقد رفع عدد أعضاء مجلس النواب من 55 إلى 99. وقام بإصلاحات إدارية واقتصادية طالت منافعها جميع اللبنانيين. وكان شهاب حاذقا على المستوى السياسي العربي والدولي، فتمكن من حبك علاقات جيدة مع جمال عبدالناصر من جهة، ومع دول مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة من جهة أخرى.

ولعل من أهم التحديات التي واجهها الرئيس شهاب إبان فترة حكمه، كان نجاحه في إفشال الانقلاب العسكري الذي قام به ضباط من الحزب القومي السوري برتبة نقيب هم: فؤاد عوض وشوقي خير الله وعلى الحاج حسن، وكان ذلك في ليلة رأس السنة من عام 1961. ويعزو الحزب القومي السوري فشل الانقلاب إلى عدم تمكن النقيب على الحاج حسن ومجموعته من اعتقال الرئيس فؤاد شهاب في منزله. لكني أجد أن هذا التفسير بعيد عن الحقيقة، ففشله يرجع إلى التركيبة الطائفية للمجتمع والجيش اللبناني، فحتى أن الكتيبة التي قادها النقيب القومي فؤاد عوض للاستيلاء على وزارة الدفاع لم يكن ضباطها وجنودها يعرفون سبب توجههم للوزارة. هذا ومع صدور أحكام بالسجن لمدد مختلفة على عدد قليل من المشاركين في المحاولة بعد سنتين من المحاولة الانقلابية إلا أن أياً من الأحكام لم يصل إلى الإعدام. فكانت الأحكام مختلفة عن أحكام القضاء العراقي أو السوري في مثل هذه الظروف.

هذا وكان الرئيس شهاب زاهداً بالحكم، فعندما أخبره أكثر من ثلثي النواب أنهم مستعدون لإجراء تعديل دستوري ليتمكن المجلس من إعادة انتخابه لدورة ثانية عام 1964، رفض ذلك، وقدم المحامي شارل الحلو لينتخب بديلاً عنه.

كانت فترة رئاسة شارل الحلو من أكثر الفترات التي يتذكرها أبناء جيلي خاصة في ما يتعلق بحضور الإعلام اللبناني عن طريق الصحف والمجلات والكتب في المجتمع الكويتي الذي شكل المقيمون العرب غالبيته. ولعل أهم حدث هزَّ لبنان والعالم العربي في هذه الفترة كانت هزيمة حزيران 1967، والتي قفلت مصر وسوريا والأردن الحدود أمامه وعدم قدرة الدولة اللبنانية على منعه الأثر الكبير الذي مازال لبنان يعاني منه. وكان لاتفاقية القاهرة التي وقعها لبنان مع الفلسطينيين في نوفمبر 1969 نتائج كارثية على لبنان، ومع أن الرئيس شهاب كان هو من قدم شارل الحلو للرئاسة، إلا أنه عارض توقيع لبنان على هذه الاتفاقية التي حرمت لبنان من السيادة على أراضيه. وتوسعت دولة المخيمات الفلسطينية في لبنان بعد أن تمكن الجيش الأردني من طرد الفدائيين من الأردن، ساعدهم في ذلك تعاطف المسلمين اللبنانيين معهم. وقد تمكن عرفات من بسط نفوذه على لبنان متحديا السلطة المركزية الضعيفة. ولا أعتقد أن الاتفاقية تم إلغاؤها من الناحية النظرية، إلا أن الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 وخروج القيادة الفلسطينية إلى تونس ألغاها من الناحية العملية.

لم يكن الرئيس فؤاد شهاب شخصية نادرة على المستوى اللبناني فقط، وإنما يندر وجوده على المستوى العربي. فقد عرضت عليه الرئاسة مرة أخرى في 1970 قبل انتخاب فرنجية، ولم يكن الدستور يعيق انتخابه، إلا أنه رفضها وانتقل إلى رحمة الله في 25 أبريل 1973. ويذكر أنه مات في بيته البسيط تاركاً زوجته الفرنسية روز رينه بواتيو وحيدة. ولم يترك لها أموالاً ولا شركات ولا عقارات، بل تذكر تقارير أن الرئيس إلياس سركيس كان يساعدها مالياً.

كان قائداً وصاحب رؤية وكان زاهداً بالحكم والمال. وزهده بالذات يحفزني أن أتسأل إن كان الزهد بالمال والمراكز القيادية ضرورة ليكون الإنسان قائداً مخلصاً لشعبه.