من أهم التطورات التكنولوجية والابتكارية التي أصبح مفهومها متداولا، ليس فقط على مستوى الأوساط الأكاديمية والبحثية فقط، بل على مستوى العامة، مفهوم تقنيات الذكاء الاصطناعي، وما أحدثته صناعة هذه التقنية في الأعوام الأخيرة من قفزة كبيرة، خاصة مع تقدم التقنيات الحاسوبية والرقمية وظهور الإنترنت والتكنولوجيا السحابية والبيانات الضخمة، وأدى ذلك إلى انتشارها بشكل كبير وتعدد استخدامها في عديد من المجالات الحياتية، مثل الطب والتعليم والمجالات الدفاعية والصناعية والزراعة والنقل والترفيه وغيرها، وأصبحت تقنية الذكاء الاصطناعي في الأعوام الأخيرة محطة تنافس استثماري قوي بين كثير من الشركات العالمية، بل أيضا بين كثير من دول العالم. لذا سأتناول في هذا المقال كيفية وطبيعة هذا التنافس الاستثماري مع الاستشهاد ببعض الأمثلة لأوضح مدى وأهمية الاستثمار في مثل هذه التقنيات لتحقيق تنمية حياتية واقتصادية مستدامة.
ظهرت تقنيات الذكاء الاصطناعي في عديد من المجالات وأصبحت تحتل جزءا كبيرا في كثير منها، مثل: الطب والتعليم والسيارات والاستخدامات العسكرية وغيرها، خصوصا مع تعدد إصداراتها وتنوع نماذجها والتي تحدثت عنها في مقالات سابقة، حيث أصبحت هذه التقنيات قادرة على أداء مجموعة من المهام المتعددة، تشمل معالجة النصوص وتحليلها، وتظهر هذه الأنظمة قدرات في الإجابة عن الأسئلة وإنشاء نصوص وصور ورموز بشكل غير متوقع، ومثل هذه الأنواع من التكنولوجيا ستسهم -بلا شك- في إحداث تغيرات جذرية، ليس على مستوى الاقتصاد العالمي فقط، وإنما على طريقة وطبيعة المجتمعات بشكل عام وخاص أيضا. لذا يتوقع أن حجم السوق العالمية للذكاء الاصطناعي، سيبلغ نحو نحو 422 مليار دولار بحلول 2028، حسبما أشار إليه بعض التقارير الصادرة والمعنية بسوق الذكاء الاصطناعي، مثل Zion Market Research study.
التنافس الاستثماري القوي بين عديد من الشركات والمؤسسات والمستثمرين والدول في هذا المجال بات واضحا ومتسارعا بشكل كبير، وكثير من الدول جعل مجال الذكاء الاصطناعي من أولوياته وأهدافه ورسم استراتيجيات مستقبلية واضحة لذلك، بدءا من البحث والتطوير والابتكار، وصولا إلى إنشاء بنية تحتية قوية، وتشجيع الاستخدامات التجارية والتطبيقات العملية، وجذب المستثمرين والشركات الناشئة ذات الابتكارات الواعدة، ما أوجد بيئة استثمارية منافسة.
وتعد الولايات المتحدة من الدول الرائدة في هذا المجال، حيث تتنافس شركاتها التقنية والتكنولوجية الكبرى في توسيع استثماراتها، ومن تلك الشركات: جوجل وأمازون ومايكروسوفت وفيسبوك وأوراكل وآي بي إم وألفا بت، وذلك إما عن طريق الاستحواذ على شركات صغيرة ناشئة في هذا المجال وإما عبر إنشاء وحدات خاصة للذكاء الاصطناعي ضمن هياكلها التنظيمية والتطويرية، وربطها بمراكز بحثية ريادية متخصصة في جامعاتها، وأصبحت في ذلك متقدمة بشكل كبير في هذا المجال، كما يستثمر بعض من الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي لابتكار وتطوير تقنيات وحلول جديدة لغرض جذب عديد من الاستثمارات، سواء عن طريق المستثمرين أو الشركات الأخرى، كما يكون الاستثمار في شركات أشباه الموصلات التي تقوم بتطوير رقائق مصممة خصيصا لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، مثل شركة نفيديا التي ارتفعت أسهمها السوقية أخيرا تبعا لذلك وشركة أيه إم دي.
كما تعد الصين واحدة من الدول الرائدة والمتقدمة جدا في مجال الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، حيث وضعت خطة استراتيجية وطنية تركز على تطوير الذكاء الاصطناعي واعتباره قطاعا حيويا لتحقيق الريادة العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول 2030، وبالتالي حصلت على المركز الأول عالميا، على مستوى طلبات براءات الاختراع الخاصة بالذكاء الاصطناعي، وأنشأت مركزا وطنيا متكاملا للبيانات الضخمة، وعملت بخطط محكمة لتهيئة البيئة الملائمة لهذا المجال من جميع النواحي، فمثلا هناك ما يقارب 400 مؤسسة تعليمية في تخصص الذكاء الاصطناعي فقط، وفيها عدد كبير من الشركات الناشئة في هذا المجال يمثل ما يقارب نصف شركات الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، وهناك الشركات الصينية التقنية الكبرى التي تستثمر وتعمل في مجال الذكاء الاصطناعي، وتتزعم الركب في ذلك شركة علي بابا وشركة بايت دانس. وتشير التوقعات في عدد من التقارير الدولية، مثل تلك الصادرة عن شركة البيانات الدولية آي دي سي، إلى أن يصل الإنفاق في سوق الذكاء الاصطناعي إلى 14.75 مليار دولار بنهاية 2023، ويتوقع ان يصل حجم السوق في الصين إلى 26.44 مليار دولار في 2026.
وفي السعودية، نجد أن الاستثمار في قطاع الذكاء الاصطناعي ينمو بشكل قياسي ويرتبط بخدمات عدة، منها: خدمات البنية التحتية الرقمية، والتكنولوجيا المالية، والدفع الإلكتروني، والخدمات اللوجستية والنقل، والخدمات الإلكترونية المرتبطة بجودة الحياة التي تشمل الصحة الإلكترونية، والتعليم الإلكتروني، والترفيه والألعاب الإلكترونية، وغيرها، حيث تشير تقارير الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، إلى أن هناك خططا للاستثمار بأكثر من 20 مليار دولار لتأسيس نحو 400 شركة ناشئة في قطاع الذكاء الاصطناعي بحلول 2030، والمتابع لأخبار قطاع الأعمال ووفقا لإحصائيات وزارة التجارة، يجد أن عدد الشركات الناشئة في قطاع تقنيات الذكاء الاصطناعي تضاعف هذا العام بنسبة 74 في المائة عند مقارنتها بـ2022، وما أعلن أخيرا من دخول صندوق الاستثمارات العامة في شراكة استثمارية مع مجموعة ديجيتال بريدج العالمية، وهي مجموعة متخصصة في إدارة الأصول والاستثمار في تقنيات الجيل الجديد من شبكات الاتصال والإنترنت، يهدف هذا الاستثمار إلى تطوير قطاع مراكز وقواعد البيانات في المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي، وأرى أن مثل هذا التوجه سيدعم الاقتصاد الرقمي للمملكة بشكل كبير جدا، وأن الاستثمار في مثل هذه التقنيات والخاصة بالذكاء الاصطناعي سيحقق تنمية مزدهرة وجودة ونوعية حياة عالية واقتصادا رقميا مستداما.
التعليقات