لعل الاستقلال النقدي الأوروبي المكسب الأساس الذي أحرزتْه التّجربة الأوروبيّة المعاصرة في الاندماج والوحدة الاقتصاديّين، منذ شهدت هذه على انعطافتها الكبرى بإقامة الاتّحاد الأوروبيّ. قبل ذلك الاستقلال النقديّ - الذي تحقّق بإحداث العملة الأوروبيّة الموحّدة «اليورو» - كانت أوروبا ما تزال تعيش في عهد الاقتصادات القوميّة التي تجسّدها العُمْلات الوطنيّة أو القوميّة، جنباً إلى جنب مع الأسواق القوميّة والأنظمة الحمائيّة الجمركيّة. غير أنّ سيادة تلك الحال من الحياة الاقتصاديّة القوميّة ومن استقلال العملات القوميّة بعضها عن بعض، في ذلك الإبّان، ما كان ليعنيَ أنّ دول أوروبا حقّقت لنفسها استقلالاً نقديّاً حقّاً، لمجرّد أنّ الواحدة منها انفردت لنفسها بعملتها التي تعبّر عن واقع اقتصادها القوميّ؛ ذلك أنّ هذه العملات جميعها ظلّت مرتبطة بالدّولار ومتحدِّدة القيمة به؛ فهو مرجعها الذي بقيمته توزَن قيمتُها.
لم تبدأ العملات الأوروبيّة في الانفكاك التّدريجيّ عن مرجعيّة الدّولار إلاّ بعد سنوات من الاتّفاق على اعتماد اليورو عملة موحّدة (نهاية 1995)؛ أي حين وقع تعيين القيمة النّقديّة لليورو مقابل كلّ عملة وطنيّة، ثمّ ربْط هذه العملات جميعِها بالعملة الموحّدة الجديدة بدلاً من الدّولار. كان ذلك قبل أن يدخل العمل باليورو، رسميّاً، في مجال التّداولات (في مطلع العام 2002)؛ أي في الفترة الانتقاليّة الممتدّة من 1 يناير (كانون الثاني) 1999 إلى 1 يناير (كانون الثاني) 2002. وما إنْ شُرِع في التّداول الرّسميّ لليورو- من حيث صار عملة أوروبيّة - حتّى كان بعضُ ذلك الاستقلال الماليّ الأوروبيّ قد تكرّس من طريق حصْر وضْع السّياسة النّقديّة وإدارتها في يد البنك المركزيّ الأوروبيّ (فرانكفورت)، لتصبح العملة الأوروبيّة مرجعيّةً في أوروبا كافّة.
على أنّ ثمّة فارقاً كبيراً بين الاستقلال النّقديّ - وقد تَحَقّق بإحداث العملة الموحَّدة - والاستقلال الماليّ: الذي لا يمكن أن يُبْصِر نوراً من غير استقلالٍ اقتصاديّ. صحيح أنّ استقلال أوروبا بعملتها الموحّدة سيعزّز، كثيراً، مركزها الماليّ في العالم ويوفّر للاندماج الاقتصاديّ الأوروبيّ مورداً حيويّاً من الموارد التي يتوقّف عليها نجاحُه؛ وصحيحٌ أنّ اليورو سيُدخل أوروبا إلى المنافسة العالميّة مع الدّولار ومع العملات الكبرى الأخرى (اليوان، الينّ)...، ولكن من غير المؤكّد أنّ مثل هذا الاستقلال النّقديّ قد يوفّر لدول الاتّحاد الأوروبيّ فرصة للاستقلال الماليّ الفعليّ عن قبضة النّظام الماليّ الأمريكيّ. آيُ ذلك أنّ الولايات المتّحدة لم تقف موقف معارضةٍ حازمة من إحداث عملة اليورو، لأنّ قيامها لا يشكّل تهديداً جديّاً لقوّة الدّولار ومركزيّته في النّظام الاقتصاديّ العالميّ، ولو كان لديها الحدّ الأدنى من اليقين بمخاطر إحداثه على سلطة الدّولار في العالم، لَمَا تردّدت - لحظةً - في إفشال قيامه.
نعم، ما من شكّ في أنّ قرار إنشاء عملة موحَّدة في أوروبا أزعج واشنطن إلى حدٍّ مّا، كما أزعجها قيام الاتّحاد الأوروبيّ، ولكنّ انزعاجَها من ذلك ما بَلَغَ حدّ الخوف، ولا حَمَل على ردّ فعْل كبير من حجم المواجهة المباشرة مع قرار أوروبا إحداث عملة جديدة موحَّدة. كلّ ما كانت تستطيع الولايات المتّحدة أن تعاكس به أوروبا هو الإيعاز لبريطانيا بعدم الانضمام إلى نظام اليورو - عند بعضٍ - أو تشجيعها إيّاها على ذلك عند بعضٍ ثانٍ؛ وهو عين ما حصل. وينبغي، هنا، أن لا نستهين بما يمكن أن تردّ به واشنطن على نظام اليورو في ما لو هدّد ذلك مصالحها فعلاً، أو كان سبباً في إخراج منطقةٍ استراتيجيّة من نطاق نفوذها (أوروبا).
المثال الحيّ على ما يمكن أن تُبديه من رفضٍ وإفشالٍ هو ما فعلته - ونجحت فيه - من رفضٍ قاطع لإنشاء «جيش أوروبيّ موحّد»، واضطرار أوروبا (ألمانيا وفرنسا خاصّةً) لتجرُّع «الڤيتو» الأمريكيّ. وهكذا، لو هدَّد اليورو الدّولار بمثل ما هدّد الجيشُ الأوروبيّ الموحّد منظومة حلف شمال الأطلسيّ، لَمَا دَعَتْ واشنطن عواصم أوروبا تحلم - يوماً - بقيام عملةٍ أوروبيّة موحّدة، ولَوَاجهت القرار الخاصّ بها بمثل ما واجهتِ الأوّل؛ إذْ سيتعلّق الأمر، في الحاليْن، بالاستقلال العسكريّ والاستقلال الماليّ، وهما المدماكان الأساسان، فعلاً، لاستقلال أوروبا عن الولايات المتّحدة.
هذا ما يبرِّر لماذا ميَّزنا بين الاستقلال النّقديّ والاستقلال الماليّ؛ إذِ الأخيرُ وقْفٌ على استقلالٍ اقتصاديّ كامل، وهذا ممنوع على أوروبا منذ انتهاء الحرب العالميّة الثّانية وصيرورة قسمٍ كبيرٍ منها منطقة نفوذٍ أمريكيّ. واليوم، ما تزيد التّبعيّةُ إلاّ تفاقماً ورسوخاً في امتداد عولمةٍ ربطت خيوط أوروبا جميعِها بالمركز الأمريكيّ. هكذا سيكون على الاتّحاد الأوروبيّ أن يظلّ يعيش - حتّى إشعار آخر- مفارقته الحادّة هذه: استقلال نقديّ وتبعيّة اقتصاديّة!
التعليقات