يتصور البعض أن ما جرى في السودان هو نوع من المواجهة الداخلية أو حتى الحرب الأهلية لفترة محددة، ولكن الأمر يتجاوز ذلك كثيراً فما حدث هو بداية لا تبدو لها نهاية، إنها جزء من مخطط إقليمي خبيث يستهدف السودان وبعض جيرانه، ولكنه يبدأ خطته بعملية تفكيك للتماسك الإقليمي ووحدة الأراضي السودانية، إذ إنه من الواضح أن الاستهداف الكبير يسعى لأن يحصد نتائج تخدم أغراضاً معينة وتحقق مزايا إقليمية لأطراف أخرى. فالذي يجري في السودان يعيده عشرات السنين إلى الوراء ويجعله ضحية حقيقية لمخطط آثم لا نودّ أن نستسلم له بشكل مطلق، ولكننا نستطيع التعرف عليه من خلال الشواهد التي أصبحت واضحة إلى حد كبير، ولذلك فإنني أضع النقاط فوق الحروف التالية:

* أولاً: إن تركيز الأعمال العسكرية على غرب السودان وإقليم دارفور تحديداً أمامنا، محاولة لفصل ذلك الإقليم وإقامة دولة سودانية ثالثة بعد تمزيق وحدة ذلك البلد الكبير، وفي ظل ظروف يمكن أن تسمح بذلك بل وتساعد عليه، ويبقى شرق السودان بمساحته الواسعة وفراغه السكاني النسبي مطمعاً لقوى إقليمية، وتكون هذه المحاولة لتفكيك الدولة السودانية هي مقدمة لمزيد من تمزيق السودان وتحويله إلى دويلات صغيرة، تجد بعض القوى الإقليمية فيها موطئاً لقدم ونقطة للانطلاق والانتشار. ولا أريد أن أسمي تلك الدول الإقليمية؛ فالكل يعرف من يمارس الدعم للفصائل المتمردة على حساب وحدة السودان وتماسك مكانته.

* ثانياً: إن السودان ظل لعدة عقود خصوصاً في ظل حكم البشير مرتعاً لقوى وجماعات خارج القانون، وبعيداً عن مؤسسات الدولة مع القبول بالاندماج السياسي المرحلي بين بعض الأطراف، خصوصاً تلك التي تعتبر ذاتها خاسرة في الشهور الأخيرة بما يعني أن هناك محاولة لإحياء حركة الإخوان المسلمين، وتشجيع عناصر متطرفة أخرى لاقتحام المشهد وممارسة أعمال تبدو وكأنها مقدمات لحدث كبير، خصوصاً وأن كثيراً من المؤسسات المعنية كانت حريصة على مسايرة الأوضاع الجديدة في البلاد وإظهار الدعم لها، والذين تابعوا عمليات التدمير والتخريب التي جرى تبادلها بين الطرفين لا بد أن يشعر بدرجة عالية من الحزن، لأن السودان كان قد بدأ مسيرته نحو الاستقرار والاتجاه للحكم المدني، وتصفية الجيوش الصغيرة على امتداد الخريطة الجديدة.

* ثالثاً: إن الشعب السوداني المعروف بعشقه للحرية وتمسكه بالمعايير الوطنية، لا يستطيع الغفران أو حتى النسيان لما أحاط بالبلاد، وما أصاب تركيبتها الوطنية بالصورة التي شهدناها. إن السودانيين معروفون بالإباء والشمم كردّ فعل لمسيرة طويلة من الاحتكاك بالقوى الاستعمارية الطامعة في السودان أرضاً ونهراً وسيادة، لذلك يتعين على كل من يتصدى للأزمة السودانية أن يكون مقبولاً من ذلك الشعب .

* رابعاً: إن ما يجرى في السودان قد غطى على الملء الرابع لسد النهضة وصرف الأنظار الدولية والمحلية عن نتائج ذلك الملف الشائك، ولذلك فإن مصر وأيضاً السودان خاسرتان من انفجار ذلك البركان الذي هز أعماق السودانيين وجيرانهم.

* خامساً: إن ما جرى ويجري في السودان هو صدام حول الثروة وليس صداماً من أجل الثورة، إذ إن قصة الذهب ومناجمه وحيازة أجزاء كبيرة منها لا تبدو قليلة، ولكنها تظهر أمامنا على الأقل أكبر بكثير من مواجهات القتال، خصوصاً وأن الإشارة إلى هذه الأمور الحساسة تضع دولاً عربية في موضع المواجهة، ومصر من جانبها تراقب ما يجري عن كثب وهي تؤمن تماماً أنه لا يصح إلا الصحيح، كما أنها تدرك بأن دورها في المحيط الإقليمي بل والفضاء الدولي يسمحان لها بحرية الحركة عند اللزوم والقدرة على تصفية الأوضاع لمصلحة الشعب السوداني أولاً وجيرانه ثانياً.

هذه سطور عاجلة تجسّد مخاوف كبيرة من أن تتحول أزمة السودان إلى عملية تفكيك لمفاصل تلك الدولة العربية الإفريقية، ووقتها لن يجدي البكاء على اللبن المسكوب.