لم يكن من السهل على إدارة بايدن أن تروج لفكرة التطبيع مع إسرائيل دون أن تتدخل الشروط السعودية الثابتة في الفكرة المطروحة، فقدا بدأ بوضوح للمفاوض الأميركي أن فكرة الدولتين لم تكن فكرة للاستهلاك السياسي من الجانب السعودي بل هي فكرة تأتي من صلب السياسة السعودية وتقاليدها، فالسعودية عبر تاريخها ظلت هي الدولة العربية الوحيدة التي تحملت أعباء القضية الفلسطينية وهذا كان وما زال واجبها كدولة قيادية على المستوى العربي والدولي والإسلامي.

العلاقة السعودية الأميركية مستمرة حتى وإن مرت بالكثير من المنعطفات التاريخية، السعودية وأميركا تدخلان اليوم مرحلة تفترض الاتفاق على مبادئ ومقترحات تعيد تصورات علاقتهما بشكل يتوافق مع واقع منطقة مضطربة تعاني الكثير من الأزمات وتتطلب تبني مشهد سياسي أكثر عمقا وإدراكا لتحولات المنطقة، فما حدث في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر 2023م يفرض أهمية بناء تصورات جديدة لضمان عدم خروج المنطقة عن مسارها إلى مسار مضطرب بشكل أكبر، وهذا ما يفرض أهمية بناء استراتيجية طويلة الأمد لمواجهة العقبات التي تعاني منها المنطقة وخاصة أن تجربة هجوم غزة أثبتت فكرة مفادها أن هناك دائما عدم يقين حول النتائج التي يمكن أن تحدث في المنطقة مع كل أزمة مهما كان حجمها أو مصدرها.

السعودية كتب عليها التاريخ أن تكون دائما وأبدا حجر الزاوية في تفاصيل سياسات المنطقة، وبفضل عوامل سياسية واقتصادية واستراتيجية تحيط بالسعودية فقد منحتها هذه الميزات تفوقا وتقدما في المنطقة، ولذلك فإن أي دولة في العالم -وخاصة الدول ذات النفوذ الكبير دولياً- تسعى بكل قوة إلى أن تكون السعودية في صفها، وهذه حقيقة استراتيجية يدركها العالم الذي تتقاطع مصالحه الاستراتيجية دائما وأبدا مع جغرافيا واقتصاد السعودية وسياساتها.

بحسب الأخبار النشطة فإن السعودية وأميركا تناقشان التوصل إلى معاهدة دفاع مشترك ومشروعات تنموية هي أقرب في تصوراتها للاتفاقيات العسكرية مع دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية، ويبدو أن هذا المسار الأميركي يشكل محاولة لتجنب المخاطر التي يمكن أن يحدثها الفراغ الأميركي في المنطقة في حال عدم استجابة أميركا لحاجات المنطقة الاستراتيجية وأمنها القومي في ظل وجود استقطابات دولية وتنافس شديد.

أميركا تمتلك هذا النوع من الاتفاقات الثنائية في أوروبا وآسيا وتحولات النظام العالمي تعمل على إجبار أميركا على إعادة تموضعها الدولي، فأميركا تدرك بقوة أن نموذج تنافسها مع الاتحاد السوفيتي سباق لم يعد موجودا، فلم يعد العالم يتبنى فكرة العلاقات ذات الاتجاه الواحد المغلق، فدول العالم تدرك اليوم أن علاقاتها مع أميركا هي علاقات مصالح وليس علاقات مطلقة ذات مسار واحد، فالسياسة الأميركية تشعر بأهمية انتقالها إلى مربع مختلف فلن تبقى الاستراتيجية الأميركية كما كانت عليه في الماضي قبل ظهور قوى عالمية جديدة كالصين وروسيا والهند.

أميركا اليوم تعيد تفسير علاقاتها الاستراتيجية ومصالحها وفق أفكار حيوية بعيدة عن الاستقطاب الشديد، وهنا يجب القول إن الحقيقة السياسية حول العلاقات السعودية الأميركية يتم بناؤها وفقا لمنظر جديد تلعب فيه فكرة تقاسم المصالح دورا حيوياً، فالعالم يمر بمرحلة تحول يتم فيها ابتكار وسائل مختلفة لمفاهيم القوة والنفوذ في العالم، والعالم يشعر أن أميركا تعيد تعريف مفاهيم قوتها ونفوذها الدولي بفكرة الشراكات القائمة على تبادل المصالح.

لم يعد من المنطقي أن نقول إن دولة من دول العالم في هذا القرن وتفكر بعلاقاتها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية يمكنها أن تتجاوز مؤشرات دول منافسة لأميركا كالهند والصين وروسيا التي يبلغ عدد سكانها مجتمعة ما يقارب ثلاثة مليارات نسمة فضلاً عن قوة اقتصادية، فسكان هذه الدول رقم يقترب ليكون نصف سكان العالم تقريبا، أميركا تدرك أن مفهوم النظام العالمي الجديد يفرض نفسه بمعايير مختلفة عن تلك التي كانت سائدة إلى نهاية القرن العشرين، لذلك فإن مسارات العلاقات السعودية الأميركية هي مشكلة أميركية بالدرجة الأولى وليست مشكلة سعودية، فخيارات السعودية الدولية أكبر بكثير من منافسيها أو الراغبين في بناء علاقات متينة معها.

الاتفاق السعودي الأميركي من المتوقع وبشكل كبير ألا يعاني من أي اعتراضات في الداخل الأميركي وحسابات المشرعين في الكونغرس، فمهما كانت بنود هذا الاتفاق بعيدة عما يتم تداوله فإن السعودية كانت واضحة في موقفها من القضية الفلسطينية ولم ترفض شروط التطبيع؛ ولكنها اشترطت مسارا سياسيا يحقق في نهاية الطريق دولة فلسطينية تعيش بسلام وفق القرارات الدولية، المشرعون الأميركان يدركون أن العالم تغير وأن السعودية أصبحت اليوم قوة عالمية متوسطة تمتلك التأثير في السياسات الدولية التي يمكنها أن تعيد تشكيل الهرم العالمي بطرق مختلفة ومفاجئة.