كل دولة في العالم لها مرجعها الثقافي الأعلى الذي يحكم قوانينها ويسمى القانون الأساسي أو الدستور، وإن كان هنالك من يعتقد بأن دساتير وقوانين الغرب واحدة أو متطابقة أو متشابهة، وأن هذه الدساتير كلها مكتوبة، وأنها من نتاج العصور الحديثة، والحقيقة أن بعض الدساتير غير مكتوبة، ومعظمها من آثار القرون الماضية، فقِدَم الأفكار لا يكون مبررًا لرفضها، فالشورى في الإسلام جاءت قبل 14 قرناً.

فإذا ما نظرنا مثلاً إلى الدستور الأميركي والدستور البريطاني، نجد أن الدستور الأميركي يختلف اختلافاً جذرياً عن الدستور البريطاني.

ففي دراسة علمية مقارنة للمفكر أمين المميز كتبها بعد أن أمضى مدة طويلة في الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة. تناول فيها دور المهاجرين الأميركيين الأوائل في وضع مادة الدستور الأميركي، مستندين في ذلك على تجاربهم وخبراتهم والنظريات التي ينادون بها والشعارات التي يرفعونها.

فالعماد الذي يرتكز عليه الكيان السياسي الأميركي، والمحور الذي يدور حوله نظام الحكم في الولايات المتحدة هو الدستور، تلك الوثيقة التي كتبها الأميركيون الأوائل بعد كفاح طويل وتجارب قاسية ومريرة وانشقاقات، وحروب أهلية، والتي هي اليوم في نظرهم بمثابة الكتب المقدسة.

ولذلك يتمسك الأميركيون بوثيقة الدستور، والذي يرونه الكفيل بالمحافظة على توازن السلطات والمصدر الوحيد للديموقراطية والفرصة الأبدية لحرية الاختيار وبناء حياة جديدة.

وهنا تبدو السطور المحفورة عند قدمي سيدة الحرية على بوابة مرفأ نيويورك رافعة شعلتها، واضعة هالتها الأسطورية في أعلى جبينها مستقبلة سفائن المهاجرين الوافدين إلى العالم الجديد، تلك السطور مشتقة من فلسفة الدستور.

اللوحة عند قدمي التمثال تقول: (ابعثوا إلي بمتعبيكم ومشرديكم وبجموعكم المتجمهرة المتطلعة إلى فجر الحرية).

على هذا المبدأ وضِع الدستور الأميركي والذي لم يأتِ من فراغ، فقد كانت المراكب وسفن المهاجرين وكل قادم إلى أميركا يطرح قيوده وراء الأطلنطي هرباً من عبودية الفقر والتعصب الديني، والاضطهاد السياسي، ولذلك وضعوا قيود مُحكمة في دستورهم، حتى لا يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل هجرتهم إلى العالم الجديد.

فقد وضعوا أحكم القيود وأوثق وسائل المراقبة والإشراف والتحديد بين سلطات الحكومة المركزية وسلطات الولايات، وبين سلطات وحقوق الهيئة التنفيذية والهيئة التشريعية.

وعلى وقع هذا الدستوري تمركز لدى الأميركي وفي أعماق نفسه أن البشر متساوون في كل شيء إلى درجة أن أصبح التفوق أو حتى الادعاء بتفوق إنسان على آخر، أو هيئة على أخرى، مبعثاً للسخرية، وخارجاً على روح الدستور ومبادئه وقوانينه، ولذلك أصبح الأميركي حساساً لمن يحاول الظهور بمظهر المسيطر، أو يتكئ على معايير فئوية أو اعتبارية، أو ينساق وراء ثقافة المكانة أو مظهريات الممتلكات والوجاهة، أو التمركز حول الذات، هذا المفهوم لا تقبله الذهنية الأميركية، ولا تجد له أثراً في الشارع الأميركي أو في المدرسة، أو في الأسواق أو في النظام العائلي الأميركي.

فمن يقرأ الدستور الأميركي يعلم أنه قد برع في تقسيم السلطات بين الهيئات الثلاثة التي يتألف منها جهاز الحكم الأميركي.

ولكن القاعدة التي ترتكز عليها الديموقراطية في العرف الأميركي والتي تعد أصلاً من أصول الديموقراطية (الرضوخ لرغبة الأكثرية).

ففي الولايات المتحدة الأميركية حزبان كبيران، هما: الحزب الديموقراطي، والحزب الجمهوري، وهذان الحزبان يتناوبان الحكم، إلا أن هذين الحزبين لا يقومان على مبادئ سياسية يناضل كل حزب في سبيلها، فلا الحزب الأميركي، ولا السياسي الأميركي، ولا الفرد الأميركي، يخلص لمبدأ معين أو لفكرة سياسية، وإنما للمصلحة الذاتية، ومصلحة الشركات الاحتكارية، ذلك هو المفتاح السياسي في السياسة الحزبية.

أما بريطانيا فتستند الحياة السياسية في المملكة المتحدة إلى الدستور الإنجليزي، وهذا الدستور لا يشبه دساتير الدول الأخرى، فهو غير مكتوب يرجع إليه عند الاقتضاء، لكنه عبارة عن مجموعة من التقاليد والعرف السياسي والقوانين العامة والمبادئ التي أقرتها الضرورة السياسية أنى اقتضت وحيثما وجدت.

فبحسب العرف الدستوري في بريطانيا لا يصح أن يقال عن عمل ما إنه غير دستوري، إذ إن الدستور لا يحرم القيام بأي عمل مهما كان نوعه، ولكنه يصح أن يقال إن العمل الفلاني كان مخالفاً للقانون.

لا يعلم بالضبط ما يضمه الدستور الإنجليزي من الأحكام والنصوص، وإذا ارتأى البرلمان أن يغير أي حكم من هذه الأحكام، والنصوص فبوسعه أن يفعل ذلك بمجرد إصدار قرار منه ولا ينتظر أن يصطدم أو يتعارض هذا القرار مع صلب الدستور، ولذلك فقد قيل عن الدستور الإنجليزي بأنه مرن (flexible)، يمتاز عن الدساتير الأخرى التي تعرف بالدساتير الصلبة (rigid) كدستور الولايات المتحدة.

إن شكل الدستور الإنجليزي يتفق كل الاتفاق مع الطبيعة والمزاج الإنجليزي، فللإنجليز مقدرة عظمى للمحافظة على الموازنة السياسية، فأمورهم السياسية تجري كما لو كان دستورهم مكتوباً أو صلباً، إذ قلما يحدث أن تفرط إحدى السلطات بحقوقها، أو تصطدم بسلطة أخرى متذرعة بفقدان دستور ثابت، ويكفي لتغيير أي حكم من أحكام الدستور الإنجليزي أن يصدر البرلمان قراراً بالتغيير، أو أن تفسر محكمة من المحاكم المختصة حكماً من أحكامه تفسيراً جديداً أو أن تجري سابقة ما، وهذه السابقة متى أما أقرت من دون اعتراض فإنها تعد كما لو صدر بها حكم دستوري جديد، ولذلك فقد وصف بعض علماء التشريع الدستور الإنجليزي بالفوضوية.

لكن هناك من يذهب إلى القول إن الدساتير المكتوبة هي من آثار القرون الماضية، وإن في الدستور غير المكتوب حرمة وجلالاً أكثر من الدساتير المكتوبة، إذ الدساتير المكتوبة لا يمكن أن تطبق ما لم تستعن بقوانين أخرى تفسرها وتشرح أحكامها.