كتب ميكيافيلي كتابه «الأمير» الى الأمير بغية تثبيت سلطة الأمير وبقاء عائلة الأمير في إدارة دفة الحكم في فلورنسا … وإذا نجح الأمير واستقر على كرسي السلطة، حتمًا سيكون لمؤلف الكتاب حظوة عند الأمير، و يكون رد الجميل من الأمير للمؤلف منصبًا كبيرًا يدر على المؤلف المال ويلبسه الجاه و يرفعه الى المقام الأعلى في سلم البنية الاجتماعية.
ظاهريًا كان الكتاب إرشادات من خبير سياسي الى أمير شاب، وما وراء الظاهر، وهو القصد و المراد في المقام الأول و الأعلى، خدمة الذات على ظهر الأمير دون أن يشعر الأمير بثقل الحمل على ظهره، وهذا ما توحي اليه مقدمة الكتاب، و هي رسالة ميكيافيلي الى الأمير تحت عنوان «من نيقولا ميكيافيلي إلى لورنزو، الابن العظيم لبيرو دي ميتشي»… مجرد العنوان يكفي حتى يستوحي القارئ هدفًا شخصيًا يخدم الذات مما أراده المؤلف من تقديم كتابه هدية الى الأمير… بيع وشراء في عرف المصالح الخاصة. ليس بالضرورة أن تكون هذه القراءة صحيحة، لأنه من المستحيل سبر غور ما كان يدور في خلد المفكر السياسي الكبير نيكولو ميكيافيلي، خاصة وإن كتاب «الأمير» ليس الكتاب الوحيد أمام كتب أخرى مثل «تاريخ فلورنسا» و«المطارحات او الخطابات» و«فن الحرب» و«مسرحيته الشهيرة» ماندراغولا Mandragola اضافة الى عدد من الكتابات السياسية الأخرى والأعمال الأدبية.
كتاب الأمير، او توصيات ميكيافيلي الى أميره المحبوب، يرسم بروح من الانتهازية نمطًا سلوكيًا، والذي كان يتصور انه السلوك الأمثل لمواجهة القضايا والمشاكل التي كانت تعصف بايطاليا في ذاك العصر. مواجهة القضايا بسلوكية فردية بحتة دون أي اعتبار لفهم جذور القضايا والتحديات.
النمط السلوكي المرسوم في كتاب الأمير يستند على قاعدة اساسية وهي «اللا اخلاقية» بأبعد الأبعاد وأعمق الأعماق، ولا أخلاقية تتنفس بسوء نية شيطانية لا تتحمل شعرة من الانسانية. وبمعنى آخر فقد ارتضى ميكيافيلي لنفسه، في توصياته الشهيرة !!!، دور المحرض الذي يشجع أميره المحبوب للبطش دون رحمة بمن يقف أمام سلطانه او يكون سببًا للمشاكل التي تعصف بمملكته. والنتيجة المؤسفة أن توصيات كتاب الأمير للأمير لم تخدم صاحب الكتاب.
«الأمير» كان في البداية رسالة مطولة الى أمير ينتمي الى عائلة عريقة في السلطة السياسية والمالية، ولها تاريخ عريق وخبرة واسعة وعميقة في شؤون إدارة الدولة، وكذلك ادارة الشؤون المالية، إذ أن البنك الذي أسسته في فلورنسا كان من أكبر البنوك في أوروبا. الرسالة المطولة الى الأمير (المنقذ) كانت مجموعة من الارشادات و الافكار المباشرة، بمنعى دستور عمل، وليس كتاب.
الرسالة كانت في عام 1513، وجاءت أول طبعة في عام 1523، أي بعد وفاة ميكيافيلي، وبعد ذلك توالت طبعات الكتاب عشرين طبعة خلال عشرين سنة، وهذا يكشف مدى هوس السياسيين الطامحين الى السلطة من خلال الاسترشاد بهذا الكتاب السياسي المميز، ويمكن القول إن الذين قرءوا هذا الكتاب يفوق عدد الذين قرءوا الكتاب المقدس.
كُتِبَ الكثير وقيل الكثير عن كتاب «الأمير»، ومعظمها تنديد بالكتاب بصاحبه، و جكان رأي الفيلسوف البريطاني برتراند رسل «بأن الكتاب مجرد كتيب لرجال العصابات»، والمؤرخون يصفون ميكيافيلي بأنه «استاذ الشر»، وبأنه ألهم الطغاة والمستبدين، ولا عجب أن يكون هتلر وموسوليني من رواد صفحات الكتاب.
تناول الناس الكتاب، وخاصة الساسة والمفكرون، وساد مفهوم «الميكيافيلية» في الاوساط السياسية والثقافية عامة، ووفقًا لتعريف قاموس أوكسفورد الإنجليزي: الميكيافيلية توظيف المكر والازدواجية (الخداع) في الكفاءة السياسية أو في (السلوك العام)، وهو أيضًا مصطلح يعبر عن مذهبٍ فكري سياسي أو فلسفي يمكن تلخيصه في عبارة (الغاية تبرر الوسيلة)… وصار الكتاب مرجعًا لكل دكتاتور ومستبد في عالم السياسة، وكل منافق وانتهازي في عالم الاجتماع الذي يجمع بين الناس وينظم المصالح الحياتية بينهم. انتشر الكتاب ودخل قلوب ساسة كثيرين، ومن المؤسف وحقيقة الامر انه لم يدخل عقولهم، بل استقر في قلوبهم يدغدغ نفوسهم ويثني على ما تفرزه أهواؤهم.
رسالة «الأمير» لها خلفية درامية، وهي أن ميكيافيلي عمل مستشارًا في العهد الجمهوري لمدة 13 سنة بعد الغزو الفرنسي لفلورنسا و نفي آل دي ميتشي. عندما عادت أسرة دي ميتشي الى الحكم عام 1512 نفي ميكيافيلي الى مزرعته بعيدا عن شؤون الدولة والسياسة، و لكنه كان يطمح الى منصب سياسي في ظل حكومة كانت قد غضبت عليه ونفته، وما عليه إلاّ ان يصحح الامر ويتقرب الى السلطة القائمة، فكانت الوسيلة رسالة مميزة في إظهار الولاء بشكل مفرط انفرطت معه جميع القيم الاخلاقية، وهي المدونة في كتاب «الأمير».
هذه كانت لحظة الانتهازية الفارقة في مساحة تفكير إنسان ذكي وسياسي محنك و أديب مبدع ومفكر كبير، وهو بهذه المَلَكَةِ الغنية كان في وضع أقوى من أن ينزلق على منحدر الانتهازية… انها لحظة التردد بين القيمة التي يمكن أن تَدُرُّها الذات الطموحة، و القِيَمِ التي تتبنى الذاتُ مبادئَها الفاضلة، لحظة فاصلة يمكن ان تحط من قيمة عالية بقبول سعر يغري طموح الذات الانانية… لحظة اختبار يمر بها معظم الناس، وخاصة ذوي الامكانيات الفكرية العالية و الغنية من كنوز المعرفة، وهذا ما يعرف بالخوف من خيانة المثقف.
من سوء حظ ميكيافيلي ان رسالته لم تصل، او أن الأمير لم يعطها الاهمية التي كان يتلمظ بها ميكيافيلي، لأن الوقت لم يكن مناسبًا، إذ أن ذاك الوقت كان محشورًا في زمان مفصلي في تاريخ اوروبا، وهو بزوغ عصر النهضة، عصر التحول الكبير من سلطة الكنيسة الى سلطة المجتمع المدني والدولة العلمانية. كان مرحلة الصراع الشرس بين القديم المتشبث بسلطته ومصالحه من جهة، و الجديد الطموح الى إحداث تغيير تقدمي ينهي سلطة الماضي ويؤسس مجتمعًا و سلطة حكم تسترشد بالفكر الوضعي بعيدًا عن وصاية الكنيسة. كأن لسان حال الأمير أمام رسالة «الأمير» من السيد المنفي ميكيافيلي، هو: «يا أيها الانتهازي الحقير، نحن في وادٍ من الكر ولفر والصراع من أجل البقاء، وأنت تريد أن تقطف الثمار، ألا تبًا لك ولرسالتك». عدم اهتمام الأمير برسالة ميكيافيلي، أي إهمالها وعدم اعطائها الاعتبار الذي كان يتمناه صاحب الرسالة، نزل على ميكيافيلي كالصاعقة القاضية، او كتلك الضربة التي تعيد الوعي الى العقل بعد سكرة النفس.
حتى يعود الانسان الى رشده فلا بد من صدمة تعصف بالنفس وتصعق الروح، ويعود معها الفكرُ موبخًا أنانية الذات، بعد أن كان الفكر مكبلًا بأوهام الطموح، والطموح مثل نقطة الطاقة المركزية المُرَكَّزَةِ تتفجر وتتوسع الى ما لا نهاية مثل (نظرية) الانفجار الكبير الذي نتج عنه الكون… الطموح سعته سعة الكون، وهنا الوهم الكبير.
تسعيرة الذات لم تَأْتِ أُكُلَها، فعاد الى رشده لاعادة تقييم ذاته، واختلى بنفسه في مزرعته المتواضعة يفكر في إنتاج فكري يمحي آثار رسالته الانتهازية، ويعيد له مكانته الثقافية وقيمته الانسانية. خمس سنوات قضاها يدون أفكارًا، أعطاها نصيبًا من السعة والعمق، حول السياسة والحرب والادارة و أصول الحكم، والقانون، و الاخلاق، والدين، والعلاقات الدولية، وتوجيه الشعوب و قيادتها، متبعًا فيه أسلوبًا يختلف الى حد كبير عن الاسلوب الذي اتبعه في «الأمير».
نبذ ميكيافيلي كتاب «الأمير» وأحَلَّ مكانه كتاب «مطارحات ميكيافيلي»، وهو كتاب يستحق القراءة، وخاصة من قبل الساسة والمثقفين، حتى يميزوا بين ميكيافيلي المفكر و ميكيافيلي الطموح (الانتهازي)… لكن معظم الناس متشبثين بما نبذه ميكيافيلي، وقلة من الناس من قرأ او اهتم بمطارحاته الفكرية الى الناس أمام رسالته الانتهازية الى الأمير.













التعليقات