لم أجد تعبيراً لوصف ما يجري في السودان منذ إبريل الماضي من قتال ضارٍ ودماءٍ مستباحة ودولة يجري تدميرها بيد أبنائها، إلا تعبير انتحار الشعوب للحديث عن مأساة السودان الذي ينزف دماً ويبكي دمعاً حتى تساءل المواطن العادي من أبناء ذلك البلد الأبيّ، لماذا هذا الذي حدث وأيّ ذنب جناه المواطن السوداني الآمن الذي عرف المعاناة طوال تاريخه؟ وها هو الآن يتجرع كأساً تطفح بالمرارة وتفيض بمشروب الهوان.

لقد ابتُلي السودان بحالات من الانقسام والانشطار، ولا يجد حالياً مخرجاً من ذلك المأزق الذي وضعه العسكريون فيه، فالسودان بلد يعشق الحكم المدني ويدرك معنى الديمقراطية ويدين بالولاء المطلق للحريات، ولكن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن، وها هو السودان يواجه ضربات عاتية تقصف المدنيين وتروّع الآمنين وتجعلنا نتساءل، أي ذنب ذلك الذي جناه السودانيون الذين يتقلبون بين عذابات الحاجة الاقتصادية وغياب الأمن والأمان، فلا هم أُطعموا من جوع ولا هم أمنوا من خوف؟ إنني أظن صادقاً أن تحالف الفقر المادي والنزاع المسلح والحرب الضارية، تمثل كلها تجمعاً خبيثاً ضد ذلك الشعب الطيب الوديع. إن بدني يقشعرّ والطائرات تقصف الأحياء السكنية والراجمات تقتحم الشوارع والمدفعية الثقيلة تدق أعناق الوطن بلا رحمة أو عدل، إن ذلك كله يعني أن الدولة السودانية التي تمتلك مقومات الغنى زراعياً وحيوانياً، وتكاد تمثل سلة الغذاء للمنطقة كلها تقع الآن تحت ضربات موجعة من أبناء الوطن الذي ينتمون إليه، وكأن لعنة حلّت على ذلك الشعب وقسّمت صفوفه وأوغرت صدوره، وقلبت حياته إلى جحيم يومي حتى أصبح خبراً معتاداً في الإذاعات وأجهزة التلفزة وعناوين الصحف لدرجة أن اعتاد عليه الناس، حول تدهور أمني وخراب سياسي، وأصبحت قلوبنا تنفطر مع الأشقاء في واحدة من أقسى المحن، التي تعرضت لها الشعوب المعاصرة وقد نجمت عن فساد بعض الخلايا في جسد السودان، الذي كان ولا يزال بوابة العرب إلى إفريقيا وبوابة إفريقيا على العروبة أيضاً.

إنني أتساءل كيف وصلت الجرائم إلى حد الإقدام على ما يتم فعله؟ سؤال يراود الذهن ويقلق الوجدان ويجعل الأمر مؤدياً إلى التخبط وعدم الفهم خصوصاً وأن أطرافاً أخرى قد شاركت وتشارك في محاولة إعدام شعب السودان الذي لن يسقط أبداً لأن له تاريخاً طويلاً وجواراً جغرافياً حضارياً لا ينتهي، وقد كنا نتحدث كثيراً عن نماذج الحروب الأهلية ولكننا لم نتحدث أبداً عن نماذج لحرب عسكرية - عسكرية داخل الدولة الواحدة، وقد كانت المواجهات من قبل تدور في الأحراش والجبال والوديان ولكنها لم تكن أبداً بأسلحة الجيوش داخل المدن وفوق الكتل البشرية في المناطق السكنية، وأنا أظن أن ما يجري في السودان لا يخلو من صراع على السلطة ورغبة جامحة في التدمير، مع غياب الوعي وقصر النظر وضعف البصيرة.

يقولون إن صراعاً على الثروة يقف وراء دوافع الانتحار السوداني، وإن مناجم الذهب تحديداً وإغراءها لجماعات سودانية وغير سودانية قد أحال الأمر برمته إلى شيء لا يصدق، في محاولة لتمزيق واحدة من أكبر الكيانات الإفريقية وأكثرها ثراء بالتاريخ والجغرافيا معاً، ويتساءل المرء أين عقلاء السودان؟ نعم لقد غاب الصادق المهدي بحكمته وعلمه، أين الطيب صالح؟ وأين الفيتوري؟ وأين الشعراء والأدباء والعلماء في دولة الأشقاء؟ أين روح سوار الذهب الذي تعفّف عن مواصلة البقاء في السلطة وهي في يده، بينما يتهافت عليها الآخرون وهي حق الشعب السوداني دون غيره؟ إنني أهيب بمن شربوا من مياه النيل أن يجدوا الفرصة المؤاتية لرأب الصدع وجمع الكلمة في ربوع السودان العريق، وأنادي مخلصاً كافة الأطراف قائلاً: لتكن لكم مبادرات إيجابية حقيقية في إيقاف تلك الحرب الضروس، التي لا رابح فيها ولا خاسر بل الكل خاسرون، والسودان الذي كان يجب أن يتهيأ للبناء والتنمية أصبح مسرحاً للخراب والدمار في صراع عبثي لا طائل من ورائه، وليحتكم الجميع إلى الشرعية وإلى دستور البلاد، وإلى حكمة ذلك الشعب الذي يؤمن بالحرية بغير حدود ويتطلع إلى المستقبل آملاً النجاة، والعودة إلى الرشد والإيمان بأن السودان كيان لن ينقسم مرة ثانية بفضل حكمة أبنائه ووقفة أشقائه ودعم أصدقائه.