في يوليو/تموز المنصرم، حصل تغيّر «شكلي» في الموقف الإثيوبي تجاه مشكلة سد النهضة.
فأثناء زيارته القاهرة لحضور مؤتمر دول جوار السودان، في 13 يوليو/تموز 2023، ولقائه الرئيس عبدالفتاح السيسي، وافق رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد على بدء مفاوضات ثلاثية مصرية-سودانية- إثيوبية للتوصل إلى اتفاق نهائي لملء وتشغيل السد خلال أربعة أشهر.
وقد رحّب صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بالخطوة الإيجابية الخاصة بالاتفاق بين مصر وإثيوبيا على انطلاق مفاوضات للتوصل إلى تسوية بشأن ملف سد النهضة، معرباً عن تمنياته بأن تصل هذه المفاوضات إلى حلٍّ مُرضٍ لجميع الأطراف، بما يعزز التعاون بينها، ويدعم الاستقرار في المنطقة. ليس هذا وحسب، بل بذلت دولة الإمارات مساعيها الحميدة بين طرفي المفاوضات الرئيسيين (مصر وإثيوبيا).
وقبل الحديث عن مضمون هذه المساعي الحميدة، يجدر بنا التمييز بينها وبين الوساطة، ولاسيما أنّ ثمة خلطاً بينهما في وسائل الإعلام.
تشير المساعي الحميدة إلى قيام طرفٍ ثالث (دولة أو منظمة دولية) بالسعي بين طرفين متنازعين (أو أكثر) لقبول التسوية السلمية لنزاعهم عن طريق المفاوضات، كونها الطريق الأنجع لتسوية النزاع. ويبذل جهوده الدبلوماسية لتيسير لقائهما. وقد يعرض استضافة المفاوضات في بلاده. كأن الطرف الثالث يركز على كسر الحاجز النفسي والمادي بين الطرفين المتنازعين، ولكنه لا يتدخل في صلب موضوع النزاع، ولا يقدم أفكاراً أو مشروعاً للتسوية، بل إنّ دوره ينتهي أو يكاد عندما يشرع الطرفان المتنازعان في الجلوس على مائدة التفاوض، سواء حدث ذلك في بلد الطرف الثالث أو في مكانٍ آخر. ولكن في الوساطة، لا يتوقف دور الطرف الثالث، الذي يقوم بكل ما يؤديه صاحب المساعي الحميدة، عندما تبدأ المفاوضات، بل يجلس على مائدة التفاوض مع الطرفين أو الأطراف المتنازعة، ويُقدم أفكاراً أو مشاريع للتسوية، ويتدخل عندما تصل المحادثات إلى طريقٍ مسدود أو عندما يعتريها مأزق أو يواجهها تحدٍ.
ومن هنا، نفهم أبعاد الدور الإماراتي في مشكلة سد النهضة، والذي تلخص في السعي بين مصر وإثيوبيا لاستئناف المحادثات، ثم إقناع الأخيرة، ولاسيما أثناء زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، رئيس الدولة، حفظه الله، أديس أبابا في أغسطس/آب المنصرم، بالوفاء بالتعهدات التي جاءت في القمة الثنائية بين الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإثيوبي المذكورة. وكان آبي أحمد قد التزم بعدم إلحاق ضرر ذي شأن بمصر والسودان، أثناء ملء السد. ثم أصدرت الحكومة الإثيوبية بياناً مهماً، في 15 يوليو/تموز، تتعهد فيه بأن لا ضرر ولا ضرار، وبحسن الجوار، وحفظ أمانة المياه.
وعلى الرغم من استئناف المفاوضات بين الطرفين، ودوران عجلتها لمدة أسبوعين بين مصر والسودان وإثيوبيا، أعلنت الأخيرة الانتهاء من المرحلة الرابعة والأخيرة من ملء خزّان سدّ النهضة، الذي تبلغ سعته نحو 74 مليار متر مكعب من المياه. وتجب الإشارة إلى أنّ هذا الإعلان، الذّي نشره آبي أحمد بنفسه على منصة «إكس» في 10 من الشهر الجاري، ينسف أي أساس للمفاوضات التي استؤنفت بين الأطراف الثلاثة، ويجعل الوصف الذي وصفنا به التغير في الموقف الإثيوبي تجاه مشكلة سد النهضة في مقدمة هذا المقال مطابقاً للواقع. وذلك أنّ المفاوضات الثلاثية كانت تستهدف، من وجهة نظر دولتي المصب على الأقل، التوصل إلى اتفاق شامل مُلزم قانونياً قبل ملء السد، ولاسيما أن إثيوبيا لا تعترف بالأساس القانوني القائم (المعاهدة الإنجليزية المصرية 1929، ومعاهدة النيل 1959) للحصص المائية لدولتي المصب، ولاسيما مصر.
وعلى الرغم من أن عمليات ملء السد الثلاث السابقة لم تؤثر في حصة مصر من المياه، فإنه من المتوقَّع أن تسهم عملية الملء الرابعة في ذلك، وخاصةً أنه سيكون هناك ملء متكرر للسد. وفي رد فعلها على إعلان الانتهاء من ملء السد، اتهمت وزارة الخارجية المصرية إثيوبيا بانتهاك إعلان المبادئ الموقع في عام 2015 بين مصر والسودان وإثيوبيا، وأكدت أن السلوك الإثيوبي يعد تجاهلاً لمصالح وحقوق دولتي المصب وأمنهما المائي.
وعلى الرغم من أن جولة المفاوضات التي اختتمت أواخر الشهر الماضي في القاهرة لم تحدث اختراقاً ما، فهناك آمال معقودة على توقيع اتفاقية بين البلدين في جولة المفاوضات المقبلة بأديس أبابا، بقوة دفع المساعي الحميدة الإماراتية التي آن لها أنْ تتحول إلى وساطة بين الأطراف الثلاثة.
* متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية
التعليقات