يسلك لبنان مساراً خطيراً من الانحدار قد يؤدي إلى تفكك ما تبقى من مؤسساته، في ظل الاستعصاء أمام أي تسوية أو حل يمكن أن ينقذه من الانهيار الكبير. فبعد مرور أحد عشر شهراً على انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، لا يبدو أن هناك أملاً أو بصيص نور لإنهاء الشغور الرئاسي، لا سيما مع استمرار تمترس القوى الداخلية بشروط مستعصية أمام المبادرات الإقليمية والدولية، والتي وصلت إلى طريق مسدود. لم تستطع فرنسا عبر مبعوثها الرئاسي جان إيف لودريان الذي لم يحدد موعداً نهائياً لعودته إلى بيروت من خرق جدار الاستعصاء اللبناني، وحتى لو غيّر مقاربته عبر طرح المرشح الثالث، بالتوازي مع محاولة القطريين إقناع "الثنائي الشيعي" بسحب مرشحهم، فإنّ الأمور باتت في البلد أكثر تعقيداً بفعل رفض "حزب الله" للمرشح الثالث، ووضعه سقوفاً مرتفعة أمام الحل، منتظراً مسارات مختلفة في المنطقة تحتاج إلى مزيد من الوقت كي تتبلور قبل أن يحدد الأميركيون وجهتهم على أكثر من خط وقول كلمتهم الأخيرة.


وعلى وقع التطورات السياسية والأمنية المستجدة في الساحة اللبنانية، وبينها قضية النازحين السوريين، بدأت تظهر مخاوف حقيقية من استمرار الانهيار، مدفوعاً بتوترات أمنية وصراعات قد تبقي الشغور الرئاسي لفترة طويلة، وتمديده ما لم تحضر مبادرات دولية ضاغطة تنتج من اتفاقات أو صفقات تنهي الفراغ وتؤسس لتسوية في البلد. الواقع أن ما يحدث في لبنان يذكّر بمرحلة الشغور بين عامي 2014 و2016، وإن كانت الأوضاع مختلفة بفعل الأزمة المالية والاقتصادية. لكن مؤشرات الانهيار كانت تتقدم منذ ذلك الوقت وساهم التحالف الحاكم الذي أوصل ميشال عون إلى الموقع الأول بعد الاتفاق النووي عام 2015 في أخذ البلد رهينة لمشاريع إقليمية أسست لدخول لبنان في حالة الانهيار. فإذا استمر التعطيل راهناً يمكن أن تكون العواقب وخيمة وكارثية.

لا مؤشرات حتى الآن تدل إلى أن الحركة الخارجية نحو لبنان والمتمثلة بوساطة الموفد القطري باسم اللقاء الخماسي والمبادرة الفرنسية المستمرة مع لودريان، قادرة على إحداث خرق في الاستعصاء الداخلي اللبناني يسهل الوصول إلى التسوية، أو أقله انتخاب رئيس للجمهورية. فرغم تأكيد قطر مواصلة مساعيها عبر موفدها، وإمكان عودة لودريان إلى بيروت لعقد لقاءات ثنائية مع الأفرقاء والكتل النيابية، مع تغيير في مقاربته نحو طرح اسم مرشح ثالث، إلا أن ذلك لا يكفي من دون تواصل خارجي وحركة ضاغطة للوصول إلى حل لم ينضج بعد لارتباطه بجملة ملفات إقليمية معقدة، وهي تشكل عاملاً يدفع الأفرقاء في لبنان إلى التمترس خلف شروطهم وخياراتهم، خصوصاً "حزب الله" وامتداداً "الثنائي الشيعي" المتمسك بمرشحه سليمان فرنجية.

اصطدم الحراك القطري بموقف "حزب الله" المتشدد من الرئاسة، بخلاف ما كان يسعى إليه الفرنسيون في الأساس من طرح المقايضة عبر إيصال فرنجية. ويبدو أن هذا الموقف المتشدد يرتبط بجملة تطورات إقليمية بين الأميركيين والإيرانيين. لكن رفض "حزب الله" والثنائي الشيعي لخيار المرشح الثالث ليس إسقاطاً للمبادرة القطرية ولا الفرنسية، لكنه يأتي انتظاراً لما ستؤول إليه التطورات وما إذا كان التفاوض النووي سينطلق مجدداً بين الولايات المتحدة وإيران عبر الأوروبيين أو مباشرة كما اقترح مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي. وفي هذا السياق يتبين أن "حزب الله" هو الطرف الأكثر تشدداً ويمثل جزءاً أساسياً من المشكلة، فهو بات يقدم نفسه على أنه المفاوض الرئيسي في كل الملفات اللبنانية، وإن كان بشكل غير مباشر، حتى مع الأميركيين، وهذا أمر كان واضحاً عند التفاوض حول ترسيم الحدود البحرية وصولاً إلى الاتفاق بين لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية، واعتبره الحزب إنجازاً تاريخياً.

وعلى هذا تواجه الحركة الدولية نحو لبنان استعصاءات تمسّك طرف الممانعة بشروطه، فـ"حزب الله" يقدم نفسه أنه الأقوى والقادر بتأثيره الإقليمي على فرض أي تسوية، وهو يريد أثماناً مقابل أي تنازلات يقدمها في المرحلة المقبلة. ويستند "حزب الله" في موقفه إلى قناعة بأن الجميع يدركون أن لا تقدم في الملف الرئاسي من دون اللجوء إليه، وبالتالي يرهن الرئاسة والتسوية بسياقات خارجية. ويرفع الحزب شروطه معلناً إمساكه بملفات لا أحد غيره يمكنه المناورة فيها، خصوصاً بالعلاقة مع الولايات المتحدة، ومنها أساساً ملف الحدود مع إسرائيل التي يمكن أن تكون أحد عناصر التسوية في الداخل، وأيضاً الاستحقاق الرئاسي. وهو يتشدد أمام الوساطة القطرية وأيضاً في مواجهة لودريان بعدم التخلي عن سليمان فرنجية، وعدم القبول بالمرشح الثالث، أو الذهاب إلى جلسات مفتوحة من دون حدوث تغييرات خارجية قد يتحول معها الأميركيون إلى مفاوض أساسي في الملف اللبناني انطلاقاً من الحدود.

تشدد "حزب الله" رئاسياً مرتبط إلى حد بعيد بالرهان على تطورات أميركية - إيرانية محتملة، ومنها أيضاً ما يحدث من إيقاعات في المنطقة، وهو يستند إلى عنصر قوة بأنه ما لم يتنازل عن مرشحه فلن يكون هناك تسوية، وفي المحصلة يرهن أي أفق للحل بتطورات الوضع الإقليمي. وهذه العناوين كانت واضحة في كلام الأمين العام للحزب حسن نصر الله مؤخراً والذي تناول فيه ملفات الحدود والنازحين والمبادرات الدولية. وقد كان لافتاً توظيفه لملف النازحين بقوله "البحر أمامكم وسوريا وراءكم"، فبدلاً من أن يسعى لتوفير فرص عودتهم الآمنة إلى مناطقهم، يدفع إلى تهجيرهم مجدداً، وللقول إنه الطرف القادر على التفاوض لإعادة النازحين لكن بشروط بينها ملف الرئاسة. ودائماً ما كان يقول "حزب الله" إن مرشحه سليمان فرنجية هو الوحيد القادر على حل ملف النازحين وضبط الحدود مع سوريا نظراً لعلاقته مع النظام. فانتخاب الرئيس مرتبط أيضاً بالتطبيع مع النظام السوري، لكنه أمر لا يمكن أن يحدث من دون إيقاعات إقليمية جديدة تسهم في التسوية.

لا يقتصر استعصاء "حزب الله" على ملف الرئاسة والنازحين، بل يتصل بملف الحدود وامتداداً إلى الإقليم. فإذا كان يقدم نفسه بشكل غير مباشر أنه المفاوض الأول والمقرر في الشؤون اللبنانية، فهو سيصل إلى مرحلة سيضطر فيها إلى تقديم تنازلات معينة، لكنه يوظف قوته الداخلية والإقليمية للحصول على مكاسب تمكنه من الاستمرار في موقع المتحكم بالقرار، ما يعني مكاسب سياسية وأمنية واقتصادية، إذا وصلت المفاوضات إلى ترسيم الحدود البرية أو بدأ استخراج الغاز من المنطقة البحرية اللبنانية، أو البلوك 9، وصولاً إلى التسوية وإنهاء الشغور الرئاسي، وهذا لن يكون ممكناً من دون تقدم على المسار الإقليمي ونضوج صفقات خارجية بموافقة إيرانية قد يكون لبنان الدولة أولى ضحاياها.

بات الملف الرئاسي وأيضاً الاستحقاقات اللبنانية الأخرى، من الحدود إلى النازحين، في عهدة القوى الإقليمية والدولية، وعلى هذا يقدم "حزب الله" نفسه كمفاوض أول، فليس تشدد نصر الله إلا تأكيداً لما يريده الإيرانيون ومحور الممانعة، وإن كان العنوان التعطيل ورهن البلد للخارج. لذا لا رئاسة في المدى المنظور ولا حوار جاد إلى أن تنضج الصفقات على حساب لبنان...