منذ مستهلّ العقد الثّاني من القرن الحادي والعشرين، شرعتِ الصّين في ممارسة أدوارها السّياسيّة على الصّعيد العالميّ على النّحو الذي يتناسب ومكانتها، في توازن القوى الاقتصاديّ والتّقانيّ والعلميّ. فعلتْ ذلك بعد ما يزيد على عقديْن من نهج سياسةِ نشْر نفوذها الاقتصاديّ والتّكنولوجيّ في القارّتين الآسيويّة والإفريقيّة ومدِّ الكثير منه إلى بلدان أوروبا وأمريكا الشّماليّة، من غيرِ أن تَقْرن ذلك بأداء أيّ دور خارج الدّور الاقتصاديّ لدولة عظمى جديدة، سيتغيّر بصعودها الهائل وجْه العالم وتوازنات القوى فيه. وهي إذْ تشْرع اليوم في إبداء فاعليّةٍ سياسيّة أكبر، تفعل ذلك بقدرٍ من التّعقّل والسّلوك المحسوب في مقابل تحريضٍ هستيريّ عليها من الغرب، ومن الولايات المتّحدة الأمريكيّة على نحوٍ خاصّ؛ هذه التي بدأت تستشعر خطر الصّين، وصعودها المطّرد، وتُعاين كيف باتت مساحة منافستها تَضِيق عليها شيئاً فشيئاً.
هل في خروج الصّين من اعتكافتها المديدة إلى رحاب الدّور السّياسيّ العالميّ ما يعني انقلاباً في سياساتها العليا، التي درجت عليها منذ عقود، وتَبدُّلاً في خياراتها الاستراتيجيّة؟ هل هو مسْلَك في العمل محمول على جرأةٍ جديدة، اقترنت بعهد رئيسها النّشط والذّكيّ شي جين بينغ منذ تولّى السّلطة قبل عشرة أعوام (مارس/آذار 2013)، أم هي تتجاوز الفرد - على عظيمَ ملكاته - لتُفْصِح عن موقف جماعيّ في الحزب والدّولة؟
لا نعتقد أنّ في انتقال الصّين إلى ممارسة سياسةٍ خارجيّة تليق بمكانتها الدّوليّة خروجاً على تقاليدها؛ إذِ المعلوم عنها أنّها ربطتْ، دائماً، فاعليّةَ الدّور السّياسيّ بفرض نفوذها - ثمّ مكانتها - في ميدان الاقتصاد والتّعاوُن والمصالح بحسبان قوّةِ هذه رافعةً لكلّ نفوذٍ سياسيّ. هذه واحدة؛ الثّانيّة أنّ هذه الانتقالة - وإنْ هي وقعت في عهد الرّئيس شي جين بينغ - بدأت مقدّماتها الأولى منذ صعود هوغينتاو إلى رئاسة الصّين، في العام 2003، وخاصّة منذ بداية ولايته الثّانية في العام 2008. وما من شكّ في أنّ شي جين بينغ - الذي كان، حينها، نائباً للرّئيس استأنف السّياسةَ عينَها حين صارت إليه رئاسة الصّين.
في الأحوال جميعِها، ليستِ الانتقالة تلك منحى مفاجئاً في التّقاليد السّياسيّة للصّين، لأنّ ما كان دورُها السّياسيّ معلّقاً عليه (القوّة الاقتصاديّة الهائلة) قد تحقّق، فرفع عن ذلك الدّور ربْقَه لِيُطْلقه فعّالاً بدرجاتٍ من التّناسُب مع مكانة الصّين.
باتتِ الصّين تملك من موارد القوّة، الاقتصاديّة والماليّة والإنتاجيّة والعلميّة، اليوم، ما به تستطيع رفع سقف خطابها السّياسيّ والتّحدُّث عن حقوقها وعن حقّ العالم معها، في نظامٍ عالميّ جديد بجرعةٍ من الجرأة أعلى من أي زمنٍ مضى.
إنّها، اليوم، في وضْع يسمح لها بابتناء موقعٍ سياسيّ دوليّ على مداميك نفوذها الاقتصاديّ الكونيّ كقوّةٍ تتهيّأ لتصبح، في غضون سنوات معدودات، الدَّولةَ الأعظمَ في العالم. وهو دورٌ تحميه بقوّتها الاقتصاديّة الضّاربة تلك، تماماً مثلما تحميه بقدرتها العسكريّة الهائلة المتزايدة نموّاً ونوعيّةً. وعليه، ما عاد هناك سببٌ يحملها على أن تستمرّ في السّيْر على خطى اليابان: البناء الاقتصاديّ والانسحاب من مشكلات العالم في الوقتِ عينه؛ الاقتحام الاقتصاديّ والانكفاء السّياسيّ؛ ذلك أنّ النّهج هذا (نهجُ اقتصادٍ من دون سياسة) - وإنْ كان أفادها في الماضي القريب كمثل إفادته اليابان - ما عاد يفيدها اليوم بعد أنِ اشتدّ عودها، وبات جناحُها مهيباً حتّى لدى دول الغرب المعادية لها بل ما عاد لذلك النّهج من داعٍ بعد أنْ نَقَلَتِ الولايات المتّحدة بإداراتها المختلفة: الجمهوريّة (إدارة ترامب) والدّيمقراطيّة (إدارة بايدن) المعركة مع الصّين من مسرحها الاقتصاديّ والتّكنولوجيّ (الحرب الاقتصاديّة) إلى مسرحٍ استراتيجيّ يهدّد الأمن القوميّ الصّينيّ ووحدة البلاد.
من حسن حظّ الصّين أنّها ترفع رأسها، اليوم، في امتداد اشتداد خناق الأزمة على الغرب (الأمريكيّ والأوروبيّ)، وتراجُع قدرة دوله على التّأثير على سياسات الدّول في العالم.
ومن حسن الحظّ أنّ ذلك يحصل في عزّ التّفاهم الصّينيّ- الرّوسيّ الاستراتيجيّ على العمل سويّاً لإعادة بناء نظامٍ دوليّ جديد أكثر توازناً وعدلاً من النّظام الحالي، مثلما يَلْقَى ذلك قبولاً متزايداً لا من مجموعة «البريكس» فقط، ولا من مجموعة «شنغهاي» فقط، بل من السّواد الأعظم من دول الجنوب.
التعليقات