حرب أوكرانيا كشفت عن ظاهرة ثقافية بأن الإنسان أصبح كائناً سياسياً وبصيغة عالمية، وكل حدث يحدث في هذا العالم الذي نعيشه يتحول لخبر حي على الشاشات تستقبله كل العيون ثم يتلوه تفاعل حي على منصة (X)، ويشترك البشر كلهم في التفاعل لدرجة أن ترى من يظهر تذمره في المنصات من سيطرة خبر ما على تغريدات الحسابات، وهو تذمر يكشف تعمق الظاهرة لدرجة الإدمان وهي تشكل حيويةً تفاعلية تظهر فيها الآراء والتوجهات وتكشف عن المخزون الثقافي والتوجه السياسي والاجتماعي لكل مغرد ومغردة.
والعالم أصبح اليوم على (كف شاشة) وهو التعبير الذي أطلقته في كتابي (ثقافة تويتر)، وهذه ثقافة تتجه مع ما سماه «ديريدا» بالحداثة الفرنسية التي تجمع بين الفلسفة والأدب والسياسة، وهذا وصف لا يخص فرنسا بل نجده في معظم ثقافات العالم الجديد، عالم ما بعد الاستعمار، مذ تشكل الوعي الوطني المقاوم للمستعمر وتركزت اهتمامات جميع طبقات المجتمع البشري على دور السياسة في صناعة الأحداث، بما في ذلك الخبر الذي أصبح سياسياً بالضرورة، وعلامة ذلك هي شيوع نشرات الأخبار على كل فضائيات العالم، وكلها خطابات سياسية بتوجهات وتوجيه سياسي، مع مشاهدات لا حصر لها مما سيس الفضاء البصري والسمعي، وجعل الكرة الأرضية كلها تتكلم سياسة ً وتفكر سياسةً، ومن ثم تشعر سياسة وقد تدرجت البشرية من المذياع إلى الجريدة إلى التلفزيون إلى الفضائيات ثم إلى فرص التفاعل الحر، وكلها عوامل أسهمت لجعل الناس تتسيس فيتحرك حس الفضول في البشر لمعرفة الخبر وقد أصبح ذلك سهلاً ومتنوع المصادر ثم تغريهم مواقف غيرهم لكي يدخلوا معهم في مبارزة ذهنية في تفسير الحدث ووصفه بصفات تتسق مع ميول المتحدث.
ولا ينافس السياسة إلا الاقتصاد ثم المناخ، خاصةً بعد الأحداث الكبرى في الفواجع المناخية وتقلبات الحال في أوروبا صيفياً بين شدة الحرارة مقابل أيام تقع فيها فيضانات، وهذه أيضاً تتحول لأخبار سياسية إذ تعزو ذلك لأخطاء السياسيين في سياساتهم المناخية، ومن ثم أصبح كل حدث يفهم وفق النظر السياسي.
وما لبثت أن وقعت أحداث غزة فيما بعد السابع من أكتوبر 2023، لتزيح أوكرانيا عن تصدر الشاشات الفضائية وتجلب معها تاريخ سبعة عقود من صراع كوني لم تستطع البشرية حسمه رغم التوافق على أن «حل الدولتين»، هو الحل الذي ليس في الأفق غيره. ورغم القناعات حول هذا الحل لكنه يظل بعيداً مما يعزز استمرار الصراع والتصعيد المتصل، ويعزز فكرة تسييس الإنسان والثقافة ويعزز فكرة الاستقطاب الذي يجعل الحل في حال تأجيل مطلق.
وفي النهاية تتم برمجة التفكير العام والحر على نظريات التأويل السياسي ونظريات الاستقطاب الذي لا يقوم على العدالة ولا على الحقوق، وإنما يقوم على الغلبة والإكراه الذهني مع تحويل الحقيقة من كونها شرطاً للحل إلى كونها تسليماً بواقع مفروض، ويظل المعنى السياسي هو المرجعية الأولية حتى في تصويت مجلس الأمن الذي يتصرف دون حس أو مخافة من مشاهدة العالم على الألاعيب السياسية.
*كاتب ومفكر سعودي- أستاذ النقد والنظرية، جامعة الملك سعود- الرياض.
- آخر تحديث :
التعليقات