تتردد مقولة "قيم الغاب" للدلالة على الوحشية والجشع وغياب الرحمة والرأفة، كما يحدث بين الحيوانات المفترسة في الغابات، وهناك من يسقط هذا المفهوم على الجماعات الإنسانية غير المتحضرة التي تتناحر وتلهث للبقاء على قيد الحياة في وسط بيئات فقيرة بالغذاء. من هذا المنطلق، يفترض أن التقدم العلمي والتقني وتطور سبل حياة الإنسان ينعكس على زيادة الرقي والسمو والرأفة في التعامل بين بني البشر. وهنا يبرز التساؤل: هل أصبح العالم أكثر إنسانية ورقيا في التعامل بين بني البشر مع الطفرات العلمية والثورات التقنية التي شهدها كوكب الأرض؟!

لا أحد ينكر دور العلم والتقنية في رفاهية الإنسانية المعيشية وتمكينه من السيطرة على البيئة المحيطة به سواء من حيث تحسن المسكن والمعيشة وزيادة الإنتاج وسهولة التواصل والتنقل ونحوها، إلى جانب تغير أساليب حياة الناس، بل لقد أنقذ التقدم التقني الإنسان من الجوع والفقر والأمراض المستعصية، وعلاوة على ذلك هناك من يعتقد أن التقدم التقني خاصة التقنيات الناشئة مثل تقنية النانو والتقنية الحيوية، يمكن أن تسهم في سد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، أي بين الدول المتقدمة والنامية، وذلك استنادا لدور هذه التقنيات في علاج بعض المشكلات البيئية والإسهام في توفير المياه الصالحة للشرب والهواء النقي، ما ينتج عنه القضاء على بعض الأمراض مثل الملاريا ونحوها، وكذلك زيادة الإنتاج الزراعي.

لكن يرى بعض المفكرين أن معدل الاعتماد الحالي للبشر على الآلات وضرورة التقنية المتزايدة لتوفير أسلوب حياة مريح وسهل، من المرجح أن يولد فكرة أن البشر أصبحوا عبيدا للتقنية الحديثة، ما يؤدي إلى الابتعاد عن الأصالة الفردية والوجود الذاتي والنزاهة، وبناء عليه، يعتقد أن العلم يعاني أزمة لأنه أصبح واقعيا أكثر من اللازم بطبيعته، وأصبح يولي أهمية شاملة للتقنية والميكنة والرياضيات دون اهتمام مماثل بالجوانب الاجتماعية والتجربة الإنسانية. رغم أن كثيرين يرون أن التكنولوجيا جزء من المجتمع البشري، يرى الفيلسوف هكسلي في كتابه "العلم والحرية والسلام" أن العلم والتقنية يسرعان عدم المساواة ويهددان السلام والحرية في المجتمع البشري، وربما لا يعني ذلك أنه يعارض جميع التطورات الجديدة في العلوم والتنقية، بل يحذر أن جميع التطورات التقنية يجب أن تسترشد بالفضول الأخلاقي وتحترم معايير الكرامة الفردية والسلام والأمن والعقلانية الاجتماعية، لأن العلم والتقنية ـ حسبما يعتقد ـ ليست هي الهدف النهائي، بل هي وسيلة لحياة إنسانية وأخلاقية أكثر كرامة وطيبة. لذلك كثيرون يأملون أن تسهم التكنولوجيا في إزالة المعاناة الإنسانية والاضطرابات وتعزيز السلام، من خلال الوصول إلى حياة أصيلة، تتجاوز الدلالات الحيوانية المجردة، وتخرج من الذات الأنانية الضيقة نحو الآخر، لتكون حياة ذات معنى، حياة تستحق العيش، وليست فقط حياة لا معنى لها. بناء عليه، يتساءل البعض هل جردت التكنولوجيا الإنسان من إنسانيته؟!

ختاماً، من المؤسف القول إن التقدم العلمي والتقني الهائل الذي يشهده العالم يزيد الجشع المادي والطمع بالاستيلاء على مقدرات الشعوب الأخرى دون أي اعتبارات إنسانية، تمثلا بمبدأ أن "الغاية تبرر الوسيلة" أي ولو سيرا على أشلاء الآخرين. هذا ما حدث في احتلال العراق بناء على ادعاءات كاذبة بوجود أسلحة دمار شامل، دون اعتبار لأرواح الأبرياء وتشريد مئات الآلاف من العراقيين من منازلهم. والأمر يحدث بصورة متكررة وأكثر جشعا وطمعا ووحشية في فلسطين، حيث يتجمع اليهود من أصقاع الأرض للعيش والتوسع على حساب الشعب الفلسطيني، واستخدام أحدث ما توصلت إليه التقنيات الحديثة في صناعات الأسلحة في قمع الشعب الفلسطيني وتهجيره قسريا، بمساعدة ودعم القوى العظمى والأكثر تقدما في مجالات العلم والتقنية، والأكثر دفاعا ـ كما تدعي ـ عن حقوق الإنسان! إذن يستنتج من ذلك بجلاء أن التقدم العلمي والتقني لم يسهم "أبدا" في تهذيب أخلاق الإنسان والرقي بقيمه لاحترام أخيه الإنسان!