تكشف الهدنة الممددة لحرب إسرائيل على غزة عن حجم الدمار الهائل الذي أصاب مدن القطاع ومخيماته، بمنازلها وأبراجها ومرافقها الحيوية، وخاصة مستشفياتها. يتفرج العالم على أكبر عملية قصف يتعرض لها شعب بأكمله من دون أي حماية. أكثر من عشرة آلاف ضحية وعشرات آلاف الجرحى وأكثر من مليون من السكان المقتلعين من منازلهم إلى مراكز إيواء لا تتسع إلا لعدد محدود منهم، والبقية إلى العراء في المناطق الزراعية أو على شاطئ البحر بلا زاد ولا غطاء.
هدنة ممددة، قد تعقبها هدنة أخرى تسعى إليها دول عربية وغير عربية وتعمل عليها واشنطن وقطر وأطراف آخرون، وفي الأفق حديث عن إمكان البحث في وقف لإطلاق النار ما زالت إسرائيل ترفضه حتى الآن، مهددة باستئناف الحرب حتى القضاء على "حماس"، وهو ما يبدو غير ممكن إلا بإزالة كل غزة من الوجود وهي غير ممكنة أيضاً.
الشتاء على الأبواب، بل هو أصبح داخلها، وكل التقارير من غزة تؤكد أن الحياة شبه مستحيلة في هذا الخراب، حيث كانت مدينة عامرة ذات كثافة سكانية من الأعلى في العالم. الوضع أكثر مأسوية مما كان العالم يتصور، يؤكد الناطق باسم الأونروا، وغزة المدينة ما زالت تحت الحصار، فلا مساعدات تصل إليها ولا إمدادات طبية ومرضاها وجرحاها تحت الخطر. تصف تقارير الصحافيين ومنظمات الإغاثة الوضع بأنه لا يُحتمل.
تقول أميركا بلسان رئيسها جو بايدن ووزير خارجيتها أنتوني بلينكن إنها تريد هدنة طويلة وتوحي أيضاً برغبتها في وقف إطلاق النار، لكن تعاطيها مع الحرب يبدو أكثر ميلاً إلى نتنياهو الذي يريد إكمال الحرب بعد الهدنة (أو الهدن). الكلام عن حل الدولتين يبدو للاستهلاك العربي والدولي المعارض للحرب، والتجربة الطويلة مع مراوغات السياسة الأميركية لا توحي بمصداقية واشنطن، وما كان لنتنياهو أن يكون بمثل هذه الوحشية لولا الدعم الأميركي الذي لم يتوقف بعد رغم العبارات المنمقة للمسؤولين الأميركيين التي تراعي خواطر حلفائها وأصدقائها في المنطقة العربية.
يتحدث نتنياهو ووزير حربه يوآف غالنت عن حرب طويلة حتى القضاء على "حماس" والهدف هو إطلاق الأسرى الإسرائيليين. إطلاق الأسرى يبدو بالنسبة إلى حكومة الحرب الإسرائيلية بمثابة انتصار معنوي، إضافة إلى تدمير غزة. يرفض العالم، حتى حلفاء إسرائيل الذين هرعوا لنجدتها في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، استئناف الحرب بالهمجية نفسها. حتى بايدن نفسه يقول إنه لن يقبل بذلك والبيت الأبيض أعلن أن أميركا لن تقبل بتهجير الفلسطينيين من جنوب غزة. هو يقبل بحرب، لكن عبر تكتيكات أخرى ربما. العالم لا يستطيع تجاهل المجزرة لوقت أطول تحت ضغط الشارع ولا يريد أن يتحمل تبعات تطورات قد تكون مضرة بمصالحه إذا توسع نطاق الحرب إلى الإقليم.
قبل أن تنتهي الهدنة الممددة تتسابق الجهود السياسية والدبلوماسية. لم يعد العالم يستطيع أن يضع قناعاً على عينيه، فالمجزرة المرتكبة أكبر من أن تخفى بمئات الشاحنات المحملة مياه شرب وطحيناً وحبوباً وبطانيات وخياماً وأدوية. كل ما يدخل ليس كافياً وهو موقت. وآتي الأيام سيضاعف الكارثة التي ستوقع الكثير من الضحايا نتيجة الأمراض التي ستتفشى وضعف الغذاء وتلوث المياه والبرد والشتاء.
فيما تستمر الهدنة وتتبادل إسرائيل و"حماس" الأسرى، يغضّ الجميع الطرف عما يجري في المقلب الآخر، في الضفة الغربية حيث تشن إسرائيل حرباً موازية على المدن والقرى والمخيمات تقتل من تقتل وتعتقل من تعتقل. يخرج أسير فلسطيني من السجن في صفقة المبادلة فتعتقل إسرائيل العشرات بدلاً منه. أكثر من ثلاثة آلاف معتقل منذ 7 تشرين الأول بينهم 125 امرأة و145 طفلاً بحسب نادي الأسير الفلسطيني. هؤلاء لن تشن السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس حرباً لاسترجاعهم، سينتظرون عملية مبادلة جديدة إذا لم تشملهم العملية الحالية التي لم تدخل في الصعب بعد.
الصعب هو الذي يتعلق بمبادلة العسكريين. من تتم مبادلتهم حالياً هم من الأجانب والمدنيين الإسرائيليين. عندما يحين موعد العسكريين سيتغير الوضع كلياً. لن تقبل "حماس" بأسير مقابل أسير. الجندي له ثمن آخر. ستطول لائحة "حماس" كثيراً، خصوصاً إذا استطاعت إخفاء الأسرى في مكان حريز وهنا يبدأ عض الأصابع. ولهذا تهدد إسرائيل باستئناف الحرب بعد الهدنة. إسرائيل تعتبر نفسها حتى الآن مهزومة، وهي تقولها بطريقة مواربة، بأن "حماس" لم تُهزم أو بأن عدم استرجاع كل الأسرى يُعتبر نصراً لـ"حماس".
يبدو نتنياهو مأزوماً داخلياً في مواجهة أهالي الأسرى وفي كيفية رؤيته لإنهاء الحرب وبأي ثمن، فيما ترتفع أصوات عربية وأجنبية تطالب بإحالة المجازر الإسرائيلية في غزة إلى المحاكم الدولية باعتبارها جرائم حرب. ربما لن ينقذه إيلون ماسك الذي أحضره اللوبي الصهيوني مخفوراً إلى إسرائيل ليتراجع عن إدانته السابقة لمجازر غزة وليقدم تعهدات، فهذا الرجل الزئبقي المثير للجدل يستطيع أن يلعب على مجموعة حبال دفعة واحدة.
- آخر تحديث :
التعليقات