اختار هنري كيسنجر، الذي غاب قبل أيام عن عالمنا، في عيد ميلاده المئة، الذهاب إلى الصين. كانت تلك المهمّة الأخيرة التي قام بها في هذه الحياة الطويلة التي أمضاها على أرضنا. اجتمع في تموز – يوليو الماضي في بكين بكبار المسؤولين في الدولة التي تمتلك، بعد الولايات المتحدة، ثاني اكبر اقتصاد في العالم. عكست حفاوة الاستقبال الذي خصّ به الرئيس شي جين بينغ المسؤول الأميركي السابق مدى تقدير الصين للدور الذي لعبه الرجل، بفضل عقله الإستراتيجي، على صعيد إيجاد تقارب بينها وبين أميركا.

يبدو واضحا أنّ كيسنجر أراد من خلال زيارته إلى الصين تأكيد أنّه يعتبر الانفتاح الأميركي عليها وإقامة علاقات طبيعية بين البلدين الإنجاز الأكبر الذي حققه في تاريخه السياسي الحافل. تميّز هذا التاريخ، الذي كان فيه كيسنجر مستشارا للأمن القومي ثمّ وزيرا للخارجية في الوقت ذاته، بتلك القدرة الاستثنائية على تحديد الخطوط العريضة للسياسات الدولية واتجاهاتها بعيدا عن التفاصيل الصغيرة التي كان يتفادى الغرق فيها حتّى لو كان معنى ذلك كلفة بشريّة في دولة معيّنة، لا حول لها ولا قوّة.

امتلك كيسنجر حاسة سياسية فائقة الدقّة ليكتشف، في سبعينات القرن الماضي، أنّ الاتحاد السوفياتي والصين ليسا في جبهة واحدة، بل توجد منافسة بينهما. وجد أنّه يمكن دقّ إسفين بينهما على الرغم من رفعهما شعارات واحدة معادية لـ”الإمبرياليّة”. استغل الحساسيات بين موسكو وبكين عبر عملية جس نبض تمثلت في “دبلوماسيّة كرة الطاولة” (PING PONG). قاد نجاح هذه الدبلوماسيّة إلى اقتناع الرئيس ريتشارد نيكسون بالذهاب إلى الصين في زيارة استغرقت أسبوعا. كان ذلك في شباط – فبراير 1972. لم تمض ساعة على وجود نيكسون في بكين حتّى وصلت إلى مساعديه رسالة تقول إن الزعيم ماو تسي تونغ يريد عقد لقاء مع الرئيس الأميركي. كانت تلك إشارة ذات مغزى مهمّ نظرا إلى أنّها كشفت توقا صينيا إلى فتح صفحة جديدة مع أميركا… في أسرع وقت!

غيّر كيسنجر التاريخ. ساهمت زيارة نيكسون إلى الصين في إيجاد هوّة بين موسكو وبكين وكشفت في الوقت ذاته أنّ العلاقة بين القطبين الشيوعيين ليست على ما يرام. لخّص دبلوماسي أميركي كان يدوّن كلام ماو في اللقاء مع الرئيس الأميركي بقوله “أبلغنا الزعيم الصيني وقتذاك أن ليس مطلوبا تسوية المشاكل الصعبة القائمة بيننا، في إشارة واضحة إلى تايوان، بل نستطيع تأجيل مثل هذا النوع من المشاكل والانصراف إلى نقاط نتفق في شأنها مثل إيجاد توازن مع الاتحاد السوفياتي”.

في مطلع 1992، بعد عشرين عاما من زيارة نيكسون إلى الصين وصدور بيان شنغهاي الذي أكدت فيه الولايات المتحدة اعترافها بـ”صين واحدة” وبأن تايوان “جزء من الصين” مع تأكيد إصرارها على “تسوية سلميّة للمسألة التايوانية بين الصينيين أنفسهم”، انهار الاتحاد السوفياتي.

بعد واحد وخمسين عاما من زيارة نيكسون وكيسنجر إلى بكين، ثمة عالم جديد يتميّز بصعود الصين وتراجع روسيا. لا شكّ أن شخصا مثل هنري كيسنجر، لا يزال ذهنيا بوعيه الكامل على الرغم من ضعفه الجسدي، يعي تماما خطورة أيّ تصعيد أميركي – صيني. ذهب إلى بكين لصيانة الصرح الذي بناه حجرا حجرا والذي بات يخشى انهياره. سيظلّ السؤال ما الذي سيعود به كيسنجر من الصين وهل سيكون لديه ما يقوله لإدارة جو بايدن التي باتت تدرك أن الصين هي الرابح الأوّل من غرق فلاديمير بوتين في الوحول الأوكرانيّة؟

لا يتّسم كلّ ما قام به هنري كيسنجر في حياته السياسيّة بالإيجابيّة. كان مستعدا للتضحية بكلّ القيم الديمقراطية حين كانت تدعو الحاجة إلى ذلك. على سبيل المثال وليس الحصر، دعّم عسكر تشيلي في انقلابهم الدموي على الرئيس سلفادور أليندي في العام 1973. لكنّ ما لا يمكن تجاهله أنّه فهم باكرا معنى أخذ الصين من الاتحاد السوفياتي وتوظيف ذلك في خدمة مواقف الولايات المتحدة في مرحلة الحرب الباردة.

تعاطى كيسنجر مع الشرق الأوسط معتمدا سياسة الخطوة خطوة. نجح في مصر التي وقّعت اتفاق سلام مع إسرائيل في آذار – مارس 1979 في وقت صار فيه كيسنجر خارج السلطة. لكنّ الأحداث تثبت أنّه وضع الأسس للسلام المصري – الإسرائيلي وذلك منذ اتفاق فك الارتباط الأوّل مباشرة بعد حرب 1973. فشل كيسنجر في سوريا حيث كان حافظ الأسد مهتما بحماية نظامه الأقلّوي عن طريق الاستثمار في بقاء حال اللاحرب واللاسلم إلى ما لا نهاية. في المقابل، كان أنور السادات يعرف أنّه لن يستعيد الأرض المصريّة المحتلة من دون مساعدة الولايات المتحدة. أحسن الرئيس المصري الراحل استخدام الورقة الأميركيّة. استعاد سيناء وما فيها من نفط وغاز، في ما لا يزال الجولان محتلا منذ العام 1967.

بدت الإدارة الأميركية غير راضية عن زيارة كيسنجر إلى بكين. قال كبير المستشارين الإعلاميين في البيت الأبيض، جوش إيرنست، إنه ليست لكيسنجر أيّ مسؤولية رسمية في الإدارة الأميركية ولا يتحدث باسمها. مثل هذا الأمر ليس سرّا، لكنّ البيت الأبيض اعتبر في الوقت نفسه أنّ واشنطن “تتطلع إلى معرفة نتائج تلك الزيارة” من كيسنجر نفسه، وذلك بعد عودته.

قد يكون كيسنجر أفضل من لخّص نتائج رحلته الصينيّة بقوله “على الولايات المتحدة والصين القضاء على سوء الفهم والتعايش بسلام وتجنب المواجهة. فقد أثبت التاريخ والممارسة باستمرار أنه لا يمكن للولايات المتحدة أو الصين تحمل التعامل في ما بينهما كخصمين”.

كانت زيارة بكين المهمّة السياسيّة الأخيرة لهنري كيسنجر الذي ترك بصماته على القرن العشرين. كيف سيتذكره التاريخ؟ الجواب أن كيسنجر، الذي كُتب عنه الكثير، يعرف تماما النتائج الكارثيّة التي ستترتب على مغامرة صينيّة في تايوان. هل حمل إلى واشنطن ما يفيد أن الصين ما زالت ملتزمة بالتفاهم الذي توصل إليه ماو ونيكسون في العام 1972 عن أن “تايوان جزء من الصين، لكن استعادتها تكون بالوسائل السلمية”. ما مفهوم الزعيم الصيني الجديد شي جين بينغ لعبارة “الوسائل السلميّة”؟