بغض النظر عمّ إذا كانت النتائج النهائية لحرب غزة سوف تنعكس لمصلحة إسرائيل أو ضدّها، فإنّ ما هو مؤكد أنّ خطة "تلاحم الساحات" التي شجعت "حركة حماس" على إعلان حرب "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، قد مُنيت بخسارة الجدوى وهي في طريقها إلى فشل ذريع.

لكنّ التجارب بيّنت أنّ "محور المقاومة" لا يخسر، فهو لديه بدائل كثيرة، بدءًا من تغيير "العدو" وصولًا إلى تغيير الموضوع. وفي الحالتين سلاحه الأمضى يكون: نشر الفوضى.

إنّ فشل خطة "تلاحم الساحات" لا يحتاج إلى تعميق البحث، إذ يكفي لتأكيده عدم تأثّر إسرائيل بأيّ تحرّك ميداني، سواء في لبنان أو الضفة الغربيّة أو البحر الأحمر أو سوريا أو العراق، لإحداث أيّ تغيير في خططها الحربية في قطاع غزة، بدءًا بتكثيف القصف، مرورًا بالهجوم البري في شمال القطاع، وصولًا إلى التوغل الحالي في جنوبه.

في واقع الحال، لقد تلاشى "تلاحم الساحات" وأضحى "تشتت الساحات"، فلكل جبهة أحكامها العسكرية والسياسيّة والدبلوماسيّة، مهما كانت ضعيفة أو قويّة، كحال جبهة لبنان مثلًا، إذ إنّ الضغوط والاتصالات والرسائل، بيّنت أنّ دخول "حزب الله"، كقوة مساندة، في حرب "طوفان الأقصى"، جعل من الجبهة اللبنانيّة - الإسرائيليّة قضية قائمة بذاتها (تمامًا كما هي عليه الحال في الضفة الغربيّة) وأصبح لبنان في مواجهة مطلب دولي عارم بوجوب أن ينضبط تحت سقف القرار 1701 وسحب وحدات "حزب الله" الأمنية والعسكرية إلى ما وراء شمال نهر الليطاني، ممّا نقل "حزب الله" من جبهة "مساندة غزة" إلى جبهة "مقاومة الضغوط" دفاعًا عن.. ذاته العسكريّة.

ولكنّ هذه الخسارة لا تعني النهاية، فـ"محور المقاومة" ليس لديه أيّ تعريف للهزيمة، فهو يرفع دائمًا علامات النصر، مهما كانت النتائج والمعطيات، لأنّه، عمليًّا وفعليًّا، ليس مسؤولًا إلّا عن "الأجندة" التي كلّفته بها "الجمهورية الإسلامية في إيران"، بغض النظر عن نتائجها على الدولة التي يهيمن عليها.

ولعلّ أمضى سلاح يملكه "محور المقاومة" هو قدرته على الانتقال من المشاركة في الحرب إلى إحداث الفوضى. هذا حصل في عام 2006، عندما أنسى اللبنانيّين خسائرهم الفادحة في حرب تموز (يوليو) وزرع الفوضى في البلاد، بدءًا بشل البلاد في اعتصام مفتوح في وسط بيروت وصولًا إلى عمليات عسكريّة استهدفت معارضيه في السابع من أيار (مايو) 2008، وتكريس معادلات "تهديم السلطة" في "تفاهم الدوحة" حيث حصل على "حق النقض" في السلطة التنفيذيّة، ما جعل الجميع أمام خيارين: إمّا الرضوخ له أو القبول بنتائج "اللا قرار" و"اللا تعيين" و"اللا إنتخاب".

وعليه، بدأ "حزب الله" تحضيراته لمواجهة إعلان فشل "تلاحم الساحات" وإمكان إلحاق الجيش الإسرائيلي هزيمة بـ"حركة حماس"، بعدما وسّع معاركه من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، حيث تتمركز القيادات العليا لهذه الحركة وغيرها من القوى الحليفة، مثل تنظيم "الجهاد الإسلامي".

وفي هذا الإطار، يدخل إعلان "حركة حماس - لبنان"، أمس تأسيس "طلائع طوفان الأقصى" ودعوتها اللاجئين الفلسطينيين إلى الانضمام إليها "للمشاركة في صناعة مستقبل شعبكم، وفي تحرير القدس والمسجد الأقصى المبارك".

وإذ يدرك الجميع أنّ هذه "القفزة النوعيّة" لم تكن ممكنة لولا دعم "حزب الله"، فإنّ البعض يذهب إلى القول إنّ الفكرة صاغها "حزب الله"، مذكرًا بما قاله الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصر الله، في أول خطاب له، بعد اندلاع حرب "طوفان الأقصى"، بأنّ هدف القضاء على "حماس" غبي لأنّ "حماس" موجودة أيضًا في الضفة الغربيّة ولبنان و"حيث هناك أحرار".

بطبيعة الحال، سيُثير إعلان "حماس" هذا، الحساسيّات داخل لبنان، لأنّ الذاكرة اللبنانيّة لم تنسَ بعد نتائج العمل الفلسطيني المسلّح الذي قادته "فتح"، منذ هزيمة الدول العربيّة في حرب عام 1967، بحيث أنتج، إلى الاجتياحات الإسرائيلية المتعاقبة، حربًا أهليّة استمرت بين عامي 1975 و1990.

ولكنّ بين ظروف "العمل الفدائي المسلّح" في آخر الستينات من القرن الماضي واليوم فروقات جوهريّة، فـ"منظمة التحرير الفلسطينية" في لبنان كانت مدعومة من إجماع عربي لن يتوافر لـ"حماس" التي ستبقى، مهما صالت وجالت، تعمل بصفتها خاضعة كليًّا لـ"حزب الله"، وبالتالي سينظر الصديق والعدو إلى "طلائع طوفان الأقصى" بصفتها مجرد جناح آخر من أجنحة "سرايا المقاومة"، وهي ميليشيات تابعة لـ"حزب الله" لا ينتمي أفرادها إلى الطائفة الشيعيّة.

ومن أهداف "حزب الله" وراء السماح بتأسيس "طلائع طوفان الأقصى" هو نقل النقاش من وجوب سحب وحداته المقاتلة من جنوب نهر الليطاني إلى وجوب ضبط التنظيمات الفلسطينيّة في البلاد.

ولعلّ رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل هو أوّل من تبرّع لمشاركة "حزب الله" رقصة التانغو، عندما سارع، عمدًا أو عفوًا، إلى إعلان رفض خطوة "حماس" بإضفاء "الشرعيّة" على استمرار عمل "حزب الله" في جنوب نهر الليطاني، عندما قال في تصريح له، أمس: "لبنان صاحب حق يقوى بمقاومته الوطنية لإسرائيل دفاعاً عن نفسه، ويضعف بإقامة حماس لاند في الجنوب من جديد للهجوم على إسرائيل من أراضيه".

ولم يعد سرًّا أنّ مشاركة "حزب الله" في حرب "طوفان الأقصى" لمساندة "حماس" في غزّة قد انقلبت عليه، بحيث بدأت الضغوط الدوليّة تخيّر لبنان بين حرب إسرائيليّة مدمّرة، من جهة، أو سحب مقاتلي "حزب الله" إلى ما بعد شمال نهر الليطاني، من جهة أخرى.

ويخصص "حزب الله" حيّزًا كبيرًا من أدبياته، في الآونة الأخيرة، من أجل التصدي لهذا "التخيير"، فاسحًا المجال أمام آلته الدعائيّة لشنّ هجومات بدأت تستهدف أكثر دولة تراعيه في دبلوماسيّتها.. فرنسا!