للمعرفة أشكال، وخيارات متعددة، ومضامين وفيرة، وأساليب متعددة كقراءة الكتب، والدوريات، ومشاهدة التلفاز، واستماع الإذاعة، حيث كل فرد لديه ذائقته، وميله، ووعيه، فهناك من تستهويه المعرفة بشكلها النصي وصورها الثابتة وترسخ في ذهنه إن رآها بعينه بالتالي تناسبه القراءة من الكتب والمجلات، والبعض يميل إلى تلقي المعرفة بشكلها الصوتي، ويربطها بالصور المرئية المتحركة بالتالي تناسبه الفيديوهات.

وفي ضوء مستجدات التقنية، ومتغيرات الواقع الاتصالي وتبدلاته المتسارعة يجد المتلقي لديه خيارات كثيفة، وانتقاءات خاصة وذاتية لتلقي المضامين المتنوعة من خلال وسائط ووسائل مختلفة ومن ضمنها ما يسمى "البودكاست" حيث كان التقنيون أول من بدأ في تبني البودكاست وإنتاج البرامج الصوتية، مثل برامج تتحدث عن الأخبار التقنية، أو أنظمة التشغيل وغيرها. ولكن مع مرور الوقت بدأنا نشهد دخول العديد من الأشخاص هذا المجال وأصبحت الناس تنتج العديد من البرامج الصوتية المختلفة بعضها في قوالب مرئية عن مجالات مثل ريادة الأعمال، الألعاب، الصحة، وحتى تطوير الذات.

والبودكاست أو البث الجيبي هو أحد وسائط الإعلام الرقمي، وهو عبارة عن سلسلة وسائط متعددة أو حلقات صوتية أو مرئية، يمكن الاشتراك بها أو متابعتها وهو عبارة عن تدوين أو ملف صوتي قصير أو طويل تجده في المواقع أو التطبيقات المتخصصة بها وبدأ ينتشر تدريجيا في عدد من الدول. وهذه الملفات الصوتية يمكن تنزيلها على الهاتف الذكي أو جهاز الكمبيوتر الخاص بنا، وتتضمن محتوى معين كالمقابلات عبر استضافة ضيف، أو ضيوف، أو تقديم شخصي ويمكن أحيانا بث تفاعلات مباشرة مع الجمهور، ويتم إنشاء البودكاست لغرض مناقشة موضوع معين والتعليق عليه، ويختلف عن الراديو التقليدي بأن حلقاته متاحة على الإنترنت ويمكن الاستماع إليها في أي وقت بمعنى آخر.

ولاشك أن الأمر تطور في مسألة البث الصوتي إلى أن أصبح بالإمكان بث المحتوى الصوتي من خلال خيارات مرئية حيث يميل البعض إلى تصوير المحتوى المقدم بالكاميرات سواء كان تقديما أحاديا ذاتيا، أو بوجود ضيف ومحاورته ثم نشر هذا المحتوى عبر الوسائل التواصلية وخصوصا من خلال إنشاء قنوات على اليوتيوب وبثها كحلقات كما اهتم البعض بصناعة المحتوى المرئي بطريقة احترافية ومونتاج ابتكاري وتقطيع المحتوى إلى مقاطع تبث بطريقة موزعة ومكررة في عدد من الوسائل مع إتاحة الفرصة للرجوع إلى كامل الحلقات في القناة والمنصة المخصصة.

والبودكاست يناسب الناس الذين تستهويهم المعرفة بشكلها الصوتي المصنوع مرئيا وترسخ المعلومات في أذهانهم عبر السمع والرؤية، هذا بشكلٍ أساس، زِد على ذلك أنّ من يحوي نمط حياته الكثير من التنقل أو العمل اليدوي يناسبه بشكل أكبر لأنّه لا يحتاج لمسك كتاب أو مراقبة شاشة أو استخدام يديه لتقليب الصفحات.

وفي الواقع السعودي بدأ البودكاست بنشر محتواه عبر جهود ذاتية وبتجهيز مبسط وبتقديم صوتي مسجل يركز على تقديم الشخص الواحد ويتم نشره في بعض الإذاعات السعودية بالإضافة إلى المنصات التواصلية، ثم مع ثورة وكثافة استخدام الجماهير لبعض الوسائل التواصلية كمنصة x والتيك توك وغيرها، فاتجه بعض الأشخاص والشباب غير المتخصص في الإعلام لإنتاج البودكاست الخاص بهم ونشره بل وجد البعض دعما كبيرا بالرعايات والإعلانات والمتابعة وصارت كثير من مقاطعه عبر تلك الشبكات المختلفة.

كما يلاحظ اتجاه بعض الإعلاميين القدماء، أو الذين فقدوا فرصهم في الظهور الإعلامي مرة أخرى ووجدوا البودكاست نافذة لهم لاستمرارهم، واللافت أيضا أنه ظهر نمطا شكليا، وسمات لافتة في الظهور الإعلامي على منصة البودكاست كخروج المقدم والضيوف بأسلوب مختلف بدون لبس الشماغ والغترة. وكذلك هناك تحول من التقديم الذاتي "تقديم الواحد" إلى منصة مقابلات وإحضار ضيوف وتم التركيز على أناس يصنعون الإثارة فيسوّقون لصانعي المحتوى الجيبي، والملاحظ بشدة كثافة إبراز شخصيات معروفة واستنطاقها باستدعاء أحداث جدلية في الماضي وما يمكن وصفه بالمستغرب والفاضح، واستجلاب بعض الروايات والمماحكات عن أشخاص وقصص فيتم بث هذا المحتوى بطريقة مكررة وواسعة لاستقطاب وجذب متابعين كثر.

ويبقى القول: من خلال متابعتي لكثير من بثوث البودكاست وجدت التركيز على إنتاج المحتوى بالإثارة، وليس بصنع الإثارة من المحتوى كما تقل التغذية الثقافية والنافعة مقابل تكريس نشر القضايا الجدلية، والآراء والطروحات غير المألوفة، وصناعة مماحكات، ومغالطات ومشاغبات، ومغالبات ضد الآخر.. كما لوحظ التشابه الكبير في تكرار استضافة بعض الوجوه المعروفة والمشهورة وتنقلهم من منصة إلى منصة في فترة متقاربة ونقاشهم في نفس المحاور التي طرحت سابقا للحصول على المتابعة، وهذا ينم عن فقر شديد وضحالة، ودليل على ضعف وقدرة بعضهم في بناء محتوى تواصلي واتصالي رصين ومثير بعيدا عن التشابه وتكرار البضاعة. أتمنى فعلا أن يتجه منتجو هذا الخيار التواصلي إلى استيعاب وفهم العمل الاتصالي الحقيقي لانتاج مواد ومضامين يمكن تقييمها باعتبار إعلامي واقعي.