«عمو هاد حلم وللا عنجد ؟» تقول طفلة فلسطينية لمسعفها والدم يسيل من وجهها. تكرر السؤال والمسعف يكرر الجواب ولا تكاد تصدق ما حدث لها جراء القصف الإسرائيلي. تسأل طفلة أخرى مصابة في مكان آخر من غزة التي تتعرض لقصف متواصل بالطائرات، ونعني بمتواصل أربعاً وعشرين ساعة لمدة تجاوزت الستين يوماً، «هل أنا عايشة، أنا عايشة ؟»، فالفرق بين الحياة والموت في غزة هو لحظة سقوط صاروخ يدمر منزلاً أو حارة، يقتل من يقتل ويدفن تحت الأنقاض من يدفن، ومن يصل إليه الجيران الذين يحفرون ويرفعون أعمدة الأسمنت والطوب بأيديهم بحثاً عن ناجين تكتب لهم الحياة، كهذه الطفلة، لا يصدق أنه نجا.

في المقابل، ولو أن المقارنة غير عادلة، ثمة نساء وأطفال يبكون أقاربهم المحتجزين في أنفاق غزة أمام مقر رئاسة الحكومة ووزارة الحرب في تل أبيب. ونرى جنوداً يبكون زملاءهم القتلى في المقابر التي تدفن خمسين قتيلاً يومياً كما نقل عن موظف إحدى هذه المقابر. ولا نتحدث هنا عن حوالي مائة ألف ضحية فلسطيني بين شهيد وجريح ومصاب ومفقود أغلبهم من النساء والأطفال.

إذاً لماذا تستمر الحرب؟

تفيد الأرقام أنها تكلف إسرائيل حوالي خمسين مليار دولار حسب ما أعلن المجلس الاقتصادي الوطني الإسرائيلي، وكما توقعت شركة الاستثمارات المالية الإسرائيلية «ليدر كابيتال ماركتس». فقد عطلت الحرب الحياة في المرافق الخدمية والإنتاجية ومختلف القطاعات. هؤلاء الموظفون والعمال خلعوا لباسهم المدني وربطات العنق وارتدوا الزي العسكري وتركوا الكيبورد والأقلام وحملوا السلاح وتوجهوا إلى «الحرب» باعتبار أن كل إسرائيلية وإسرائيلي جنود احتياط. وهو ما يهدد بانهيار الاقتصاد الإسرائيلي إذا ما استمرت الحرب شهوراً كما يكرر دائماً نتنياهو وغالانت وزير الحرب في أكثر الحكومات تطرفاً قي تاريخ إسرائيل.

بمواصلتها الحرب وعدم استجابتها لدعوات وقف النار اتضح أن إسرائيل تقوم بعملية انتقامية غير عقلانية وغير مدروسة. تعلن أنها لن توقف النار ولن تنهي ما تسميه العملية العسكرية في غزة إلا بعد أن تحقق أهدافها وهي القضاء على «حماس» وتحرير الرهائن. غير أنها وبعد شهرين من بدء عمليتها في اليوم التالي لصدمة السابع من أكتوبر وأطنان القذائف على غزة لم تحقق أياً من الهدفين. فالرهائن الذين أفرجت عنهم «حماس»كانوا في إطار صفقة تبادل وليس بالقوة كما كان يكرر نتنياهو. وعسكرياً وقعت في حرج بإعلانها سيطرتها على شمال وجنوب غزة ووسط المدينة فإذا بالمقاومة تسلم المحتجزين الإسرائيليين للصليب الأحمر في المنطقتين، ما يعني عدم «القضاء» عليهم.

وكلما ازداد فشلها تورطت أكثر في مستنقع غزة. فخسائرها بالأرواح والمال تتصاعد فيما تتآكل مصداقيتها في المجتمع الإسرائيلي، والأهم لدى المجتمع الدولي، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا الداعمين التقليديين لها. وقد أظهرت استطلاعات أن نسبة المؤيدين للطرف الفلسطيني أكثر بنسبة الثلثين على الطرف الإسرائيلي. كما أثرت هذه النتائج على سمعة الولايات المتحدة. وهو ما تنبهت له الإدارة الأمريكية وضغطت على الحكومة الإسرائيلية من أجل تسهيل إدخال المساعدات والوقود إلى غزة.

أصبح العالم يدرك أن ما تقوم به إسرائيل إبادة جماعية بهدف التهجير الجماعي لسكان غزة إلى مصر وتالياً سكان الضفة إلى الأردن لتوسيع احتلالهما باعتبارهما «أرضاً بلا شعب» !

أهداف إسرائيل غير الواقعية كان حذر منها مسؤولون إسرائيليون سابقون ومنهم إيهودا باراك، وكتاب منهم جدعون ليفي. كما وجه نفس التحذير الكاتب الأمريكي الشهير توماس فريدمان في مقاله في «نيويورك تايمز» بقوله إن أي تفكير إسرائيلي بغزو غزة «خطأ فادح». وإن هذا العمل سيتحول إلى أزمة استراتيجية أخلاقية وعسكرية طويلة الأمد. ويبعد واشنطن عن قضايا أكثر إلحاحاً وهي الصين وأوكرانيا.

لكن حكومة نتنياهو التي تبحث عن نصر مستحيل تتحدث بذراعها الجوية العمياء، ولا تستمع حتى لأقرب حلفائها. وفيما تسعى واشنطن جاهدة لعدم توسع حرب غزة إلى لبنان ها هو غالانت يهدد بالسيطرة على الجنوب حتى حدود نهر الليطاني.

كلاهما كالأعمى يقود الضرير. نتنياهو يحارب من أجل هدف شخصي طمعاً بالسلطة وهرباً من المحاكمة بقضايا فساد. وغالانت يريد استعادة صورة الجيش التي تمزقت في السابع من أكتوبر.