أثار مقال نشر في مجلة "الطبيعة" في 12 ديسمبر 2023 تحت عنوان "تم سحب أكثر من عشرة آلاف ورقة بحثية في 2023، وهو رقم قياسي جديد". أثار هذا المقال كثيرا من الحديث والجدل في المجتمعات الأكاديمية، ليس في المملكة فحسب، بل حول العالم، خاصة أن هذه المجلة الشهيرة تحتل المرتبة الأولى من حيث معامل التأثير، ويعد النشر فيها من أكثر المجلات وزنا في مؤشرات تصنيف الجامعة، وبالأخص في تصنيف شنغهاي.
يشير المقال المنشور في مجلة "الطبيعة" إلى أنه تم سحب عشرة آلاف بحث، وهذا رقم قياسي مقارنة بالأعوام الماضية، وقد تضاعف عدد البحوث المسحوبة ثلاث مرات خلال العقدين الماضيين. وترتفع النسب في بعض الدول مثل المملكة وباكستان وروسيا والصين. وقد تركز كثير من عمليات السحب على الدوريات المملوكة لشركة هنداوي، وهي شركة فرعية تابعة للناشر وايلي، ومقرها لندن، وذلك بسبب التلاعب المنهجي وعدم نزاهة مراجعة النظراء لنشر بحوث منخفضة الجودة أو زائفة، وكذلك لوحظ ارتفاع عمليات السحب في مجلات ومؤتمرات معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات IEEE في مدينة نيويورك. رغم أن أغلب عمليات سحب البحوث تعود إلى سوء السلوك والإخلال بالنزاهة العلمية، فإن قليلا منها يأتي بسبب اكتشاف الباحثين أنفسهم أخطاء غير مقصودة في المنهجية أو تفسير النتائج.
حول هذا الموضوع، كأني بالقارئ يحدث نفسه، ويقول لماذا لا نسمع في محيطنا العربي عن سحب البحوث من مجلات علمية محكمة بعد النشر؟ الجواب هو عدم وجود آليات فاعلة للكشف عن الإخلال بالنزاهة العلمية. علاوة على ذلك قد تبرز في ذهن القارئ تساؤلات عديدة حول النزاهة العلمية وسحب الأوراق العلمية Retraction وأسبابها؟
بدءا يمكن تعريف النزاهة العلمية بأنها الالتزام بالمبادئ الأخلاقية والمعايير المهنية الضرورية في ممارسة البحث العلمي، أي إنها مجموعة القيم الأساسية والممارسات المهنية التي تساعد على ضمان إنجاز جميع جوانب العملية البحثية بطرق موثوقة ودقيقة.
ولأن جودة البحث العلمي وأثره في المجتمع يتوقفان على مدى الالتزام بالنزاهة، فقد حظي هذا الموضوع باهتمام عالمي كبير خلال العقود الثلاثة الماضية خصوصا، ونظمت المؤتمرات والندوات وورش العمل الدولية للنزاهة العلمية بدءا بمؤتمر لشبونة في 2007. ويقصد بسحب البحوث من الدوريات أو المجلات العلمية أن تقوم المجلة بشطب البحث وإلغائه وتحرير ملاحظة عن السبب وراء ذلك، ولا شك أن هذا الإجراء يعد إجراء سيئا للبحث وللناشر وللباحثين، الذين يستشهدون بالبحث المسحوب، وكذلك للمؤسسات الأكاديمية التي ينتمي إليها أولئك الباحثون الذي يرتكبون الإخلال بالنزاهة.
في الأغلب تعود أسباب سحب البحوث إلى عديد من الأسباب، منها: أولا، تلفيق البيانات والنتائج، أي تقديم بيانات وهمية لا أساس لها. ثانيا، تزييف النتائج، أي تحريف مصادر أو أدوات أو إجراءات البحث لتحقيق نتائج معينة. ثالثا، الاقتباس الذاتي، الاقتباس المخل من الآخرين، أي السرقات العلمية. رابعا، أخطاء غير مقصودة في البيانات أو إجراءات البحث قد يكتشفها الباحث نفسه، ويقرر طلب سحب البحث. خامسا، أخطاء في تفسير النتائج، نتيجة الإهمال أو عدم القدرة على تكرار التجربة العلمية. سادسا، النشر المتعدد للبحث في أكثر من مجلة.
عامة، فإن الباحث الجاد الذي يسعى إلى تحقيق اكتشاف علمي أو إجراء دراسات نوعية ذات تأثير كبير، يكون في الأغلب أكثر التزاما بمعايير النزاهة العلمية، في حين إن الباحث الذي يكون هدفه الرئيس تحقيق الترقية العلمية أو تحقيق مكاسب مادية يكون عرضة للوقوع في واحدة من حالات الإخلال بأخلاقيات البحث العلمي. وكذلك فإن التساهل في قبول البحوث في المؤتمرات الدولية "الترفيهية" قد يمهد الطريق لارتكاب الإخلال بأخلاقيات البحث العلمي.
ختاما، أخشى أن المعلن عنه لا يمثل سوى قمة جبل الجليد من البحوث التي تنتجها مصانع البحوث ويجب سحبها، وللحد من الممارسات السيئة وغرس قيم النزاهة لدى الباحثين، أقترح ما يلي:
أولا، إطلاق ميثاق وطني ينظم أخلاقيات وممارسات البحث العلمي على مستوى الجامعات والمؤسسات العلمية ومراكز البحوث، ولائحة تنفيذية تحدد العقوبات بوضوح تام.
ثانيا، وضع عقوبات رادعة للذين تسحب بحوثهم بسبب احتيال أو إخلال مقصود بأخلاقيات البحث العلمي.
ثالثا، تعزيز الوعي بالنزاهة العلمية وأخلاقيات البحث العلمي لدى الباحثين، وكذلك لدى الطلاب ليس في الجامعات فقط، بل في التعليم العام.
رابعا، تنظيم مزيد من ورش العمل المختصة بالنزاهة في البحث العلمي.
خامسا، تعزيز دور لجان أخلاقيات البحث العلمي في الوقاية من الممارسات السيئة ورصد المخالفات والتحذير من عقوبات ارتكابها.
سادسا، الحد من الشراكات البحثية الدولية المشبوهة والتوعية بخطر مصانع البحوث المنتشرة على نطاق واسع.
سابعا، الاستفادة من البرامج الحاسوبية والذكاء الاصطناعي باللغتين العربية والإنجليزية، للوقاية من الإخلال بأخلاقيات البحث العلمي.
ثامنا، إجراء دراسة عن واقع النزاهة في البحث العلمي في المملكة عموما، وعن البحوث المسحوبة خصوصا، للوقوف على الأسباب ومن ثم معالجتها.
التعليقات