الحقيقة أنِّي تردَّدتُ كثيرًا في طرح هذا السُّؤال، باعتبار أنَّه ينطوي على كثيرٍ من الإجاباتِ المؤلمة والحزينة، التي أرى بأنَّ توقيت إثارتها ليس مناسبًا في ظلِّ المجازر الرَّهيبة التي تقوم بها إسرائيل ضدَّ الفلسطينيِّين في غزَّة، ولكوني -من ناحية أُخْرَى- لا أرغبُ في الخوض في مستنقع المكاشفة واللوم (قليل الجدوى)، وآثرتُ بدلًا من ذلك، تسليط الضوء مجدَّدًا على عددٍ من النِّقاط التي تمثِّل -في اعتقادي- فرصًا للفلسطينيِّين أفرَزَتها الأحداثُ الأخيرة، وهي فرصٌ ليست بأيِّ حالٍ وليدةَ اللحظةِ، ولكنَّها غابت طويلًا؛ نتيجة عوامل عديدة، ما لم يتم علاجها وتداركها من قِبل الفلسطينيِّين أنفسهم، فإنَّها حتمًا ستكون فرصًا ضائعةً قد لا تستمرُّ ولا تتكرَّرُ، ومنها ما يلي:
أولًا_ التفوُّق الإعلامي الرَّقمي غير المسبوق:
ذكرتُ في مقالٍ سابقٍ لي بعنوان: (هل بدأت جبهةُ الإعلام الإسرائيليَّة بالانهيار؟)، بأنَّ الفزعَ الحقيقيَّ الذي أصاب إسرائيل في 7 أكتوبر لم يكن فقط نتيجة للاختراق العسكريِّ المُهين الذي تعرَّضت له، ولكنَّه كان أيضًا نتيجة ملاحظتها لجبهتها الإعلاميَّة الدوليَّة وهي تتداعَى بشكلٍ لم تعهده من قبل في تاريخها. هذا التَّداعي لم يبدأ في الواقع مع الأحداث الأخيرة، ولكنَّه بدأ منذ منتصف التسعينيَّات، عندما قلَّلت التطوُّرات التكنولوجيَّة الرقميَّة من تأثيرات الانحياز والإقصاء المعهودة لوسائل الإعلام التقليديِّ، حيث شاهدنا مؤخَّرًا على شبكات التَّواصل تأييدًا لقضيَّة فلسطين، لم يسبق أنْ شاهدناه. صحيح أنَّ إسرائيل تمتلك الدَّعم الإعلاميَّ الغربيَّ اللامحدود، ولكنَّ الفلسطينيِّين لديهم عدالة القضيَّة، كما أنَّ لديهم إدمانَ إسرائيل على ارتكابِ المجازر والجرائم المتتالية، التي أحرجت أقرب مناصريها، والذين يعانون أنفسهم من الضَّعف والانقسام. هذا التفوُّق الهامُّ يتطلَّب إستراتيجيَّة عمل إعلاميَّة فلسطينيَّة موحَّدة -خالية من الصِّراعات الداخليَّة والتَّأثيرات الخارجيَّة- وتحمل رسائلَ دقيقةً ومدروسةً يتم بثها بكثافةٍ بمختلف اللُّغات، عبر لقطات الفيديو والبودكاست، وشبكات التَّواصل، والوثائقيَّات... وغيرها.
ثانيًا_ أنشطةُ الدَّعم الدبلوماسيِّ ومهارةُ السَّردِ:
أيُّ إعلامٍ خارجيٍّ لن يُكتب له النَّجاح ما لم يكن مصحوبًا بمنظومةٍ متكاملةٍ من أنشطة الدَّعم الدبلوماسيِّ الفاعلة. ويمكن بهذا الصَّدد النَّظر كمثالٍ للدَّور الإعلاميِّ اللافت الذي قام به السفيرُ حسام زملط، رئيس البعثة الفلسطينيَّة لدى المملكة المتَّحدة، وهو دورٌ يمكن أنْ تقوم بمثلِهِ كافَّةُ البعثات الفلسطينيَّة المنتشرة في أوروبا وآسيا وأمريكا الجنوبيَّة، وباقي أنحاء العالم. وبإمكان هذه البعثات إحداث تأثيرٍ كبيرٍ فيما لو أنَّها عملت بفاعليَّة، ووفق أسلوب سردٍ، وتواصل مدروس قادر على إيضاح الحقائق، بمنطق وإقناع مماثل لذلك الذي استخدمه السَّفير زملط.
ثالثًا_ مصادرُ القوَّة النَّاعمة الفلسطينيَّة:
وتشمل هذه المصادر أعدادًا ضخمةً من فلسطينيي الشَّتات، منتشرين في مختلف دول العالم، ومنهم رجال أعمال، وأساتذة بأشهر الجامعات، وكُتَّاب، وإعلاميُّون. كما تشمل مصادر جذَّابة عديدة غير مستغلَّة بالقدر الكافي، ومنها الثَّقافة والفنون، والسِّينما والمسرح، والموسيقى وغيرها. وإذا كان لدى إسرائيل أكثر من 265 متحفاً ونصباً تذكارياً عن الهولوكوست منتشرة في 49 دولة حول العالم، فلماذا لا يكون للفلسطينيين متاحفهم -الواقعية والافتراضية- التي تحكي قصتهم بالصور ولقطات الفيديو والوثائق التاريخية، إضافةً لتوثيق المجازر الشنيعة التي ارتكبتها إسرائيل على مدى عقود، تتضمن أسماء الضحايا وأعمارهم وصورهم!!.
التعليقات