منذ بداية التاريخ هناك سيناريوهان اثنان يحكمان العلاقة بين الشعوب: الحرب والموت أو التعايش والازدهار، ومن غير الواضح لماذا لم تتعلم البشرية حتى الآن كيفية تغليب السيناريو الثاني وتجنب الأول، رغم ما دفعته من أثمان باهظة من الدماء والدمار والجوع والفقر.
مشكلة الحروب والنزاعات والصراعات ليست في الفعل وردة الفعل، بل إن أصل المشكلة هو رغبة جامحة لدى أشخاص في مناصب عليا -سياسية أو عسكرية غالبا- في تنفيذ سياسات اقصائية توسعية وفرض السيطرة والإذلال على جيرانهم أو حتى شعوب بعيدة عنهم، طمعا في النهب السريع لمواردهم بعد قتلهم أو تجويعهم وإذلالهم.
هذا فحوى مقالنا اليوم. إنه من السذاجة الاعتقاد أن الحرب الإسرائيلية على غزة حاليا سببها ما قامت به حماس في السابع من أكتوبر رغم فداحته، بل إن جذر المشكلة يعود لما قبل ذلك، لما قبل اتفاقيات أوسلو التي حشرت نحو مليوني فلسطيني في قطعة أرض غير قابلة للحياة، بل حتى لما قبل نكسة 1967 ونكبة 1948، وربما يكون تحديدا إلى فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي عندما جاءت عصابات صهيونية إلى فلسطين وبدأت بإبادة العرب هناك.
ماذا تتوقع اسرائيل من فتى فلسطيني سلبته كل أسباب الحياة؟ لا عمل ولا مستقبل، فقر وجوع، جهل ومرض، هل تتوقع منه أن يكبر ليصبح الأم تييزا مثلا؟ أم أن الطبيعي أن يبحث عن الانضمام لأي حركة مقاومة مسلحة غير آبه بالموت طالما أصبحت موته وحياته سواء؟
بالمقابل، هل لو وفرت إسرائيل بما تملك من إمكانات مالية وعلمية وتقنية فرص تعليم وعمل جيدة للفلسطينين، هل سيكونون بهذه الحال البائس؟ ألا يصبح لديهم حياة هانئة يسعدوا بها ومستقبل زاهر يترقبونه ويخافون عليه؟ لماذا لا تبدأ اسرائيل مشروعا صادقا للتعايش مع الفلسطينيين وأن تعطيهم ما يستحقون من حقوق وكرامة؟
حضرت ذات مرة مؤتمرا رفيع المستوى بدولة السويد جمع عددا من النخب السياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية حول العالم، وكان من بين الحضور الأمير تركي الفيصل، وغيره من الشخصيات المهمة من منطقتنا العربية، وقد حضر الافتتاح وحفل العشاء ملك السويد وألقى كلمة قصيرة مختصرة عن ضرورة التواصل كي نبني انسانية أفضل.
وقد عقدت إحدى ندوات المؤتمر تحت عنوان «الإنسانية إلى أين؟»، وكان هنالك وزير اسرائيلي لم أعد أذكر اسمه، قدم مداخلة طويلة أشاد فيها بما تشهده إسرائيل من تقدم تقني وصناعي واقتصادي وعسكري وعلمي، وقال إن هذا التقدم يعكس محبة الله سبحانه للشعب اليهودي، ويؤكد أن اليهود هم بالفعل شعب الله المختار.
رفعت يدي عندما انتهى وسألته: إنني لا أشك بأنكم انتم اليهود متقدمون كثيرا، وقدمتم الكثير، وأرى بأنكم طالما كنتم شعب الله المختار، عليكم واجب كبير نحو الناس وفي مقدمتهم جيرانكم الفلسطينيون، بأن تعلمونهم ولا تقتلونهم. أذكر أنه ساد في القاعة حينها تصفيق خجول ما لبث أن تحول إلى تصفيق حار، وخاصة من قبل رئيس المؤتمر السيد بو أكمن، وهو العالم السويدي الذي نظم المؤتمر.
بعدها جمعنا عشاء صغير أنا واختي بارعة مع الأمير تركي الفيصل، أخبرته بما جرى خلال الندوة، وأذكر أنه ضحك وقال: كل من يعتقد أنه الأفضل والأكبر والأعظم إنما هو في الواقع غير واثق من نفسه، ويحاول تجاوز عقدة نقص، وهؤلاء سواء أكانوا أفرادا أو جماعات يشبهون الاسفنج الذي يمتص ولا يعطي.
عندما تمعنت أكثر بذلك، أدركت أن الأديان السماوية جميعها وصفت أتباعها بأنهم الأفضل والأميز، وحملتهم مسؤولية قيادة الآخرين نحو الطريق القويم، بل وجعلت منهم أوصياء على غيرهم، لكن اليهود فقط هم من أعطوا هذا الأمر بعدا سياسيا واجتماعيا وثقافيا، بل إن احتلالهم لأرض فلسطين ومحاولاتهم التوسع «من الفرات إلى النيل» تقوم أساسا على وعد إلهي مزعوم.
إذا كانت اسرائيل دولة حضارية متقدمة عصرية ديمقراطية في محيط متخلف جاهل مستبد يشكل خطرا على وجودها كما تدعي، فستكون أمام حلين: إما القضاء بشكل مبرم على جيرانها، أو مشاركتهم ما تمتلك من تقدم وتطور، فلماذا يفضل قادة اسرائيل على مدى أكثر من 70 عاما حتى الآن الخيار الأول على الثاني؟ هل هو الحقد التاريخي المتأصل في أفكارهم وجيناتهم على كل ما هو غير يهودي؟
ألم يعاني اليهود أنفسهم من الاضطهاد النازي؟ ألم يتعلموا الدرس حول أن القوة لا تدوم وأنه من الممكن أن ينقلب السحر على الساحر؟ ما الذي يميزهم عن هتلر أساسا؟ الرجل اعتقد أن عرقه متفوق وأن دمه أزرق، وهم أيضا يعتقدون أنهم متفقون وأنهم شعب الله المختار!
المثل العربي يقول: الجار قبل الدار، وربما هناك أمثال عالمية تؤدي نفس المعنى والغرض، واليهود يجب أن يعرفوا ذلك. إن بناء الجسور مع الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية أفضل من قطعها، وإعطاءهم حقوقهم بالعيش بسلام في دولة قابلة للحياة هو مصلحة اسرائيلية أيضا.
لا أنسى عندما أعربت لأحد أساتذتي في الجامعة عن امتناني الكبير والعظيم له على ما أعطانيه من علم، فأجاب: بني، لا داعي لشكري، أنا حصلت على هذا العلم من أستاذ مثلي عندما كنت طالبا مثلك، ودورك أنت تمرير هذا العلم لغيرك، وهذا تتعلم الأجيال وتزدهر. في مراحل حياتي اللاحقة وجدت بحق أن هذه النصيحة في محلها تماما، فعندما تشارك الناس حولك معارفك ومهاراتك وتريد لهم أن يكونوا أفضل، تجد نفسك أنت أيضا أصبحت أفضل، ومجتمعك ودولتك أفضل، وهذا ما أقوم به حتى الآن، حتى في كتاباتي للمقالات، أنا أخصص من وقتي ومواردي لذلك دون مقابل إلا إيماني بأن أحدا ما سيقرأ ما أكتب الآن أو مستقبلا، وربما يكتسب فائدة هنا أو هناك، وهذا يعني أنني لم أعش حياتي سدى.
حبذا لو تجرب اسرائيل طريقة أخرى في التعامل مع الفلسطينيين، أن تتعلم الدرس من الفينيقيين مثلا الذين غزوا العالم من دون سيف أو رمح، بل بالتجارة والحضارة، وإن جزءا بسيطا من المليارات التي تصرفها اسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة على الحروب يصرف على الثقافة والتعليم والتعايش يكفي ليعيش الجميع في أمان، وفي مقدمهم اسرائيل نفسها.
- آخر تحديث :
التعليقات